نتائج البحث
تم العثور على 28 نتيجة مع بحث فارغ
- سورة يوسف عليه السلام تكتسي بالعلم
سورة يوسف عليه السلام تكتسي بالعلم أ.د. ناصر بن صالح الزايد nalzayed@gmail.com 12 ربيع الثاني 1443 هـ بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى أصحابه الغر الميامين، وبعد، من أشد ما يلفت النظر في سورة يوسف عليه السلام كثرة ورود العلم ومشتقاته، حيث ورد بصيغ مختلفة تجاوزت 33 مرة، ويمكن ملاحظة ذلك باستعراض سورة يوسف. وربما لا يبدو الأمر غريبا حيث إن جد يوسف هو إسحق بن إبراهيم عليهما السلام وهو الذي وصفه من يعلم من خلق بقوله (قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ) وتكرر وصفه بالعليم في القرآن مرتين. لقد كان إسحق عليما بالفطرة، كما ظهر العلم لدى ابنه يعقوب ومن بعده الحفيد يوسف على الجميع صلوات الله وسلامه. لقد تفرع عن يعقوب إضافة إلى يوسف 11 ابنا مثل كل منهم أحد بني إسرائيل (لقب يعقوب) وتفرعت منهم قبائل بني إسرائيل بعد ذلك. الغريب تصرف يوسف عليه السلام عندما فكر بسحب أخيه الشقيق بنيامين؟ هل كان وحيا؟ أم يقع ضمن العلم الفذ الذي أوتيه؟ دعونا نتأمل في هذه الاسرة وخاصة الأولاد وبالذات الذكور. فقد كان ليوسف أخ شقيق هو بنيامين كما قلنا وأمهم هي راحيل، وستة إخوة من الأب عن طريق أمهم ليا بنت لابان هم: روبين، ويهودا، ولاوي، وشمعون، و زبولون، وياساكر. وله أخوان غير شقيقين أمهما بيلها وهما: دان، ونفتالي. وأخيرا هناك أخوان غير شقيقين هما: جاد، وعشير من أمهم زيلفا. إذن صار عدد جميع أبناء يعقوب الذكور: 12 بما فيهم يوسف وشقيقه. لقد لاحظ يوسف أنهم لم يأتوا بهذا الشقيق معهم في زيارتهم الأولى، وبالتالي فلن يأتوا به في قادم الأيام، لسبب يتعلق بالغيرة منه ومن أخيه (يوسف). ولكن الرؤيا فيها 11 كوكبا أي يتوجب أن يكون شقيقه معهم، وحتى يضمن تحقق الرؤيا بحذافيرها، فقد طلبه كشرط للكيل القادم، ضمن مصالح أخرى ربما تكون عرضية كإعطاء إشارة إلى ابيه في أنه حي يرزق، وكسرا لشوكة إخوانه، الذين فرطوا فيه وفي أخيه بهذه السهولة. كان يوسف واثقا أن أباه سيظل حيا وكذلك أمه وجميع إخوانه، حتى يسجدوا له في تأويل رؤياه التي رآها. ولعل هذا سبب أن يطلب حضور الجميع (وأتوني بأهلكم أجمعين). ولإن كانت الرؤيا جزءا من النبوة، وهي التي جعلت يوسف يصل إلى هذا الاعتقاد، فإن النبوة المباشرة هي التي جعلتنا نقطع بأن الذبيح هو إسماعيل وليس إسحق، لأن النبوة تقول: ومن وراء إسحق يعقوب، فكيف يؤمر بذبح ابن لم يتزوج ونسله مضمون بنص البشرى الإلهية؟ لم يكن العلم وكثرة وروده في هذه السورة الخاصة ببني إسرائيل، لم يكن هو الشيء الوحيد المتعلق بما وهب الله لجدهم إسحق ومن ورائه أبناؤه، بل إن التأمل في السورة لا ينتهي إلا بالتسبيح والتقديس لرب إسحق ومن بعده بنو إسرائيل. لنتأمل في كلمة (تأمنا) في الآية (قالوا ما لك لا تأمنا على يوسف). فهذه الكلمة متروسة بالعلم العميق، فهي الكلمة الوحيدة في القرآن الكريم التي جمعت بين حكمي الروم والإشمام في وسطها، وهي تحمل النية المبيتة لدى الإخوة بعمل شيء ما مضاد لما تعرب عنهم شفاههم، وهي أول مرة يقوم القرآن بتعرية بني إسرائيل في تضارب ما يبيت في القلوب مقابل ما يرد على الألسنة، وهنا لفتة عظيمة سمعتها من أحد الشيوخ لم يتوفر لدي اسمه: فالإشمام هنا جعل الكلمة ترد على اللسان بشكل يبدو فيه ارتباك وتلعثم، فهم كانوا مرتبكين متلعثمين أمام أبيهم بسبب نيتهم المبيتة (انتهى النقل). وهي أيضا تشير إلى أن عدم الثقة قد سبق في محاولة سابقة، وأخيرا فهي تثبت أن القرآن سماعي يتم نقله بالرواية حيث يصعب كتابة هذه الكلمة بالشكل المعطي للروم والإشمام دون سماعها رواية. فتأمل في عظمة القرآن لنتأمل أيضا في رمزية رؤيا يوسف الطفل، التي قصها على أبيه. لقد كانت الشمس ترمز للأب، والقمر للأم، والكواكب الأحد عشر للإخوة. و هي رمزية تحمل معاني علمية عميقة، فالأم – بحسب الشرائع – تبع للأب وهو صاحب القوامة عليها، ومعلوم فلكيا أن القمر تابع للشمس وليس العكس. كما أن رمزية الكواكب للأبناء كرمزية إلحاقهم بأبيهم كما تلحق الكواكب بالشمس. هل كان يوسف يعلم هذه الحقائق؟ أم كان يعقوب يعلمها؟ كلا، ولكن الذي أراه الرؤيا يعلمها، وهي تشير إلى وحدانية الخلق واتساق نواميسه، فما يجري على الكواكب والنجوم هو نفسه ما يجري على العباد! سبحان الله. كما تلهمنا أهمية الرمزية في تأويل الرؤى، وأنها لا تخرج عن النواميس الكونية والفطرة الإلهية. وأما رمزية السجود ليوسف فربما يقع تحت حقيقة سجود الكائنات وبالذات الشمس والقمر كما سجود البشر، وسجود الكائنات هو سجود لا نعلم كيفيته (أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُۥ مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِى ٱلْأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ ۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ ۗ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكْرِمٍ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ). لقد كان يعقوب يعلم تأويل الرؤيا، ويعلم أن أبناءه سيعلمونها أيضا لو سمعوها ولذلك نصح يوسف بعدم قصها عليهم، وأما يوسف نفسه فقد كان آية في تأويل الرؤى. إذن كانت الأسرة كلها ذات علم في هذا الجانب. وأما يعقوب نفسه فقد كان يتحدث مع الأبناء في ثنايا القصة حديث الواثق أن يوسف حي، وأنه سوف يقابله يوما ما، لأن الرؤيا لم تقع بعد وهو واثق أنها لابد وأن تقع، وأنه هو الشمس المذكورة فيها (ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون). مما يستغرب أن يعقوب قال لابنه مبشرا إياه: ويعلمك من تأويل الأحاديث، وقد صدقه الله في ذلك عندما قال: ولنعلمه من تأويل الأحاديث، فكيف عرف يعقوب أن الله سيعلمه هذا العلم؟ وقد اعترف يوسف لاحقا أن الله هو الذي علمه (ذلكما مما علمني ربي). أما يوسف وتفسيره للرؤيا فقد كان فعلا آية من آيات الله، وهو الذي ألقي في البئر صغيرا، ثم تربى كخادم في فترة شبابه، ثم سجن فترة أخرى، فأين تعلم هذا العلم ياترى ومتى؟ أليس واضحا أنه فطرة وهبة إلهية بحتة. دخل معه السجن فتيان: الأول رأى أنه يعصر خمرا، والآخر يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه. فسر الرؤيا الأولى على ظاهرها فليس فيها رمزية، يعصر خمرا عند الملك. وأما الآخر فتحمل رؤياه رمزية فهو يحمل خبزا تأكل الطير منه، وليس من عادة الطير أن تأكل من الخبز الذي فوق الرؤوس، ولكنها تأكل من تلك الرؤوس عندما يموت أصحابها وهم مصلوبون. لقد أكد القرآن وقوع الرؤيا الأولى والثانية بقوله (وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة) فدلت على أن الأول لم ينج، وأكدت على أن الثاني أصبح من رجال الملك في تصديق لتأويل يوسف لتلك الرؤى. تبدو قدرات يوسف العلمية واضحة في تأويل رؤيا الملك (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ). حيث فسر البقرات بالسنوات والسنبلات بالإنتاج، ولكن من أين أتى بالعام الذي يغاث فيه الناس وفيه يعصرون؟ ربما من الشخص الذي طلب منه تفسير الرؤيا، فهو نفسه الذي رأى أنه يعصر خمرا، وهذا لن يتحقق في السنوات السبع العجاف كما هو واضح، ولا في السنوات السبع التي فيها الخير بسبب أن الناس سيخافون من القادم ويحتفظون بكل الإنتاج الزائد، فليس ثمة فرصة للأكل فضلا عن العصر. وإنما بعد نهاية الدورة الاقتصادية المتكاملة ستتغير الأحوال حتى يصبح الناس يعصرون الفواكه وهي قمة الرفاهية ورغد العيش وفي هذا تحقيق لرؤيا السائل نفسه عندما كان في السجن. إن وضع هذه الرؤيا بهذا السياق المتكامل، حيث ذكر عدد سنوات الخير وعدد السنوات العجاف، و أردف ذلك بالعام الذي فيه يغاث الناس وفيه يعصرون، وذكر كيف يتم التعامل مع هذه السنوات المتقلبة، هو أمر تجاوز مجرد تأويل الرؤيا إلى علم يتعلق بأفضل طرق إدارة الاقتصاد في الظروف الصعبة والمتقلبة. إن تفسير يوسف للرؤيا ونصائحه المتعلقة بها وكأن تفسيره أمر لا مراء فيه، هو علمي من ناحية أخرى، فيوسف قطع بمراحل الاقتصاد المتقلبة مع أنه لا يعلم شيئا عن ظروف الطقس والمناخ، وبالتالي فهو لم يقرأ الظروف القادمة من قراءته للطقس أو المناخ، بل علمه تجريدي يتحدث عن وضع سيقع قطعا بغض النظر عن أسبابه، ثقة بالرؤيا وتفسيرها. وفي هذا إرشاد لنا مقابل النبوءات، والرؤيا جزء من النبوة، فعندما يبشرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحداث ستقع مستقبلا، فلا نسأل كيف ستقع والظروف كذا وكذا، فالوعد وعد، والحق واقع لامحالة شاءت الظروف أم أبت. ثم لنتأمل في عبارة يوسف عندما قال في آخر السورة (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إنه هو العليم الحكيم) حيث يلاحظ أن هذا هو كلام يوسف يرويه القرآن كما قاله، وفيه عبرتان: الأولى أنه بدأ بالعليم قبل الحكيم، في تأكيد على الدور الطاغي للعلم في هذه القصة والسورة التي تسرد تفاصيلها، وقد سبقه في ذلك أبوه يعقوب عندما قال (إن ربك عليم حكيم). والثانية: استخدامه لاسم من أسماء الله متعلق بدقة العلم وعمقه، فكما هو معلوم أن اسم اللطيف كلما ذكر في القرآن قرن مع اسم الخبير (اللطيف الخبير) إلا في مرة واحدة فقط. وقد وردت في مثل (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) والبصر مرتبط بالفوتونات وهي مخلوقات لطيفة خفية لا يعلمها إلا أصحاب العلم. ومنها قوله (يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير). فمعرفة تفاصيل الذرات وحبات الخردل وما هو أصغر يحتاج إلى علم لطيف عميق فارتبط باللطيف الخبير. مجال علمي آخر، ولولا أن ورود العلم وتكراره في السورة قد قطع علينا طريق اعتبار الإعجاز، لقلنا إن شفاء يعقوب وعودة بصره إنما هي معجزة إلهيه بعد أن شم رائحة يوسف. ولكن الواضح الجلي بعد كل ما مر من عنصر العلم، أن الأمر علمي بكل ما تحمله الكلمة سواء عرفناه الآن أم نعرفه لاحقا، ولن أخوض فيما قيل حول ذلك فليس هو مجال هذه الأسطر. ولكن يوسف كان يعلم أن إرسال قميصه إلى أبيه، بشرط أن يتم ألقاؤه على وجهه، سوف يأت به بصيرا وبشكل فوري (ألقوه على وجهه يأت بصيرا). تكرر ذكر الإلقاء على الوجه لأهميته (فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا) والفاء للترتيب والتعقيب الفوري. إذن المسألة ليست بمفاجأة الخبر ولا بتأكده الذي يمكن حصوله عن طريق البشير، بل إن إلقاء القميص مطلوب بحد ذاته للشفاء من العمى الذي أصاب يعقوب من شدة الحزن والكرب على ابنيه. هل كانت رائحة العرق هي السر؟ يوسف كان صاحب علم ومنطق علمي رصين، فهاهو يناقش من معه في السجن: أ أرباب متفرقون خير؟ أم الله الواحد القهار؟ فلاشك أن توحيد المعبود خير من تعدده، ويقول لهم: إنكم تعبدون من دون الله أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان، فما حجتكم؟ فهو يوجه انتقادات قوية لمنهجهم لا قبل لهم بردها. يعقوب نفسه كان صاحب علم لدني أيضا، فعندما طلب من أبنائه أن لا يدخلوا من باب واحد بل من أبواب متفرقة خوفا من العين، عقب الله على فعله ذلك بقوله (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) مع نفي الله – سبحانه – أن يكون فعلهم هذا سببا كافيا ضد القدر، بل النافع الضار هو الله وحده (مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ). لكنه علمه هو بما لديه من أدوات وهبها الله له، ولا يتجاوز حدوده البشرية، فها هو يقول تعليقا على فقد الابن الآخر بنيامين (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا)، مع أنهم ليست لهم علاقة بهذا الأمر. وطالما أن سياق السورة زاخر بالعلم والإشادة به والحديث عن ثمراته والتعرض لأدواته وسماته، فتقول السورة في آخرها: (وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون). فهي بذلك تحث الناس على التأمل والاستفادة من تلك الآيات الكثيرة التي يمرون عليها للكشف عنها والاستفادة منها، والتعلم من دروسها. في الوقت الذي تؤكد فيه السورة على العلم ودوره ومصدره، فإنها تلقي بظلالها على الجهل و عدم العلم. ففي داخل السجن يقول لمن حوله: (مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ) ويقرر أن أساس العلم هو السلطان أو الحجة والبرهان وبدون ذلك يصبح الأمر هراء لا قيمة له. ويقول كذلك (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) مؤكدا منهجا قرآنيا شرعيا متكررا في أن الأكثرية لا تدل بالضرورة على العلم بل العكس تماما. وقد تأكد ذلك في اعتراف المعبرين للعزيز عندما قالوا: (قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ) فهم كثرة ولكنهم ظنوا أن هذه الرؤيا الحق مجرد اضغاث أحلام، مما يؤكد ثانية أن رأي الأكثرية ليس مستندا علميا بحد ذاته. والله سبحانه أكد ذلك في آخر السورة (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) وقال أيضا (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون). لقد وقع أخوة يوسف أكثر من مرة في هذا الخطأ بالذات من مثل قولهم (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) فظنوا أن مجرد كثرتهم تكفي لتغيير عاطفة الأب. يوسف عندما جاءه الطالب يطلبه للملك، رفض الاستجابة إلا بنفي العلم المغلوط عنه، (قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ). كان يريد أن تكون صفحته بيضاء ولا توجد حوله أية شبهات. ويوسف يصف إخوته بالجهل عندما فرطوا به وبأخيه (قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ) وهي مقدمة للعفو عنهم، فموقف العالم مع الجاهل هو الصفح والإعراض. والجهل بالأشياء يقلل من قيمتها، فالذين عثروا على يوسف في البئر باعوه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين. أخيرا ربطت السورة بين التوفيق الذي حظي به يوسف في كل مراحل حياته وبين الإحسان (وكذلك نجزي المحسنين) (ولا نضيع أجر المحسنين). فأول التوفيق تلك الرؤيا التي رسمت له حياته المستقبلية، وعرف أنه سينال حظوة ومكانة عظيمة يوما ما، مما أعطاه الطمأنينة والثقة. ومن التوفيق أن الله صرف إخوته عن قتله إلى رميه في البئر، بل من التوفيق أنهم تآمروا عليه! وكادوا له، ومن التوفيق زهادة الذين وجدوه في البئر به فباعوه إلى من يرعاه بشكل أفضل، ومن التوفيق أن الذي اشتراه هو سيد مصر الذي أحسن مثواه، ومن التوفيق أن الله أراه برهانا على خطأ الوقوع في شباك سيدة قصر العزيز، وبذلك صرف عنه السوء والفحشاء، ومن التوفيق أن الله أنطق من شهد له بالبراءة عن طريق فحص القميص من قبل ومن دبر، ومن التوفيق أن الله صرف عنه كيد النساء، ومن التوفيق أن الله علمه التأويل الذي فتح له أبواب الرزق. ومن التوفيق دخول السجينين مع كل منهما رؤيا حيث أن تأويل تلك الرؤيا قاد إليه ونفعه في النهاية، بل من التوفيق نسيان الناجي منهما لوصية يوسف، إذ لو تذكر لربما تغير مسار الأحداث ولكن الله أراده أن يمكث في السجن حتى تأتي الفرصة المناسبة، ومن التوفيق رؤيا الملك، وعجز المعبرين عن تعبيرها، ومن التوفيق أن الله ساق إخوانه مع البدو إليه لطلب التموين. ومن التوفيق أنهم أنزلوا حكم السارق على حكمهم، فكان ليوسف ما يخطط له. فتأمل كيف ساق الله كل هذا الخير ليوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم، وربطه بالإحسان وهو درجة عالية من الصلاح والعلاقة بالله. وتأمل كيف حبك الله – سبحانه – كل هذه الأحداث لكي تصب في اتجاه واحد منذ نعومة أظفار يوسف، وكيف رعاه وحفظه، ويوسف عرف ذلك وشكر الله على هذه النعم العظيمة وسأل الله أن يختم له بالوفاة على الإسلام وأن يلحقه بالصالحين. لقد علمتنا هذه السورة، المبدئية التي يسير فيها هذا الكون. فرؤيا يوسف لها رمزية فلكية، ومن شأن الأفلاك أن تتقلب بين أوج وحظيظ، ولقد كان ليوسف حظ كبير من هذا التقلب، لنتأمل: كان ليوسف حظوة لدى أبيه وهو أوج، غير أنه أدى لتآمر إخوانه عليه ودخوله في غيابت الجب وهو حظيظ، ثم انتقل إلى قصر الملك وهذا أوج، فانتهى به الأمر إلى السجن وهذا حظيظ، ثم أصبح عزيزا لمصر وهذا أوج، وانتهى به الأمر إلى الوفاة وهذا حظيظ. وتلك الأيام نداولها بين الناس، يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولى الألباب. يقول سابق البربري: والمَــرءُ يَـصـعَـدُ رَيـعَـانُ الشَـبَـابِ بـه *** وكُـــلُّ مُـــصــعــدَةٍ يَــومــاً ســتَــنــحَــدِرُ أقول حقا وصدقا: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب، ما كان حديثا يفترى، ولكن تصديق الذي بين يديه، وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون). فكم وقع في ثنايا القصة من الذنوب، ولكن كانت التوبة خاتمتها، ورحمة الله ومغفرته مسحتها، فهو رحمة وهدى لنعمل مثلهم إن كنا من الخاطئين أو لنكن من أصحاب اليد الطولى المبادرين. ونقول مثل يوسف: اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين.
- الأشكال الكمية الرائعة والمعبرة للمدارات الخارجية للإلكترونات في الجدول الدوري
ناصر بن صالح الزايد تعرض الصورة المرفقة تصورًا فريدًا ومثيرًا للاهتمام للجدول الدوري من زاوية كمية بشكل كامل، حيث تظهر تمثيلات ثنائية الأبعاد للمدارات الخاصة بالإلكترونات الخارجية لكل عنصر (الأصل أن تكون ثلاثية الأبعاد). يوفر هذا التصور نظرة على الطبيعة الميكانيكية الكمومية للمدارات الذرية ويوفر فهمًا للبنية والخصائص الكيميائية للعناصر. في هذه المقالة، سنستكشف أساس هذه الأشكال المدارية، وعلاقتها بمواقع العناصر في الجدول الدوري، وتصنيف المدارات، وكيف تساعدنا هذه الأشكال على فهم الاتجاهات الدورية في الجدول الدوري. أشكال المدارات: فهم الأساسيات المدار الذري هو منطقة في الفضاء حيث توجد احتمالية عالية لوجود الإلكترون. الأشكال المختلفة الموضحة في الصورة هي نتيجة الطبيعة الموجية للإلكترونات كما هو موصوف في ميكانيكا الكم. تُظهر هذه المدارات كثافة الاحتمالية لوجود الإلكترون الخارجي لكل عنصر. تشير الألوان المختلفة في الصورة إلى مناطق احتمالية عالية أو منخفضة لوجود الإلكترون، حيث تمثل المناطق الحمراء أعلى كثافة احتمالية والمناطق الزرقاء تمثل الأقل. بمعنى أن الإلكترنات توجد بنسب احتمالية مختلفة بحسب الصورة، فالمنطقة ذات اللون الأحمر تمثل احتمالية عالية والعكس مع الألوان الأخف. تُحدد أشكال المدارات بواسطة الأعداد الكمية، التي تنتج عن حلول معادلة شرودنغر للإلكترونات في الذرات. تعتبر أشكال هذه المدارات مهمة لأنها تحدد كيفية تفاعل الذرات وكيفية تكوين الروابط بينها. تشمل الأنواع الرئيسية من المدارات s، p، d، وf، ولكل منها شكل مميز وخصائص فريدة: المدارات s : تكون كروية الشكل ولا تحتوي على عقد زاوية، مما يعني أنها متماثلة في جميع الاتجاهات. هذا واضح في الصورة لعنصري الهيدروجين (H) والهيليوم (He)، اللذان يمتلكان إلكترونهما الخارجي في مدار s. معنى ذلك أن الألكترون يمكن أن يوجد في أي مكان من الشكل المبين، ولكن احتمالية وجوده قريبا من المركز الكروي أكبر بكثير من احتمالية وجوده في الغلاف الخارجي للكرة. المدارات p : تتميز بشكل دمبل ذو فصين مرتفعين في كثافة الإلكترونات، يفصل بينهما مستوى عقدي (منطقة الالتقاء) حيث تكون احتمالية وجود الإلكترون صفر. العناصر مثل البورون (B)، الكربون (C)، النيتروجين (N)، وغيرها في الدورتين 2 و3 تمتلك إلكترونات خارجية في مدارات p، مما يفسر التشابه البصري عبر هذه العناصر. قد يكون من الصعب أن تبلع المعلومة؟ كيف ينتقل الإلكترون من النصف الأيسر إلى النصف الأيمن مع احتمالية وجوده في الوسط = صفر؟ هذه في الحياة الكلاسيكية غير ممكنة، ولكن في العالم الكمي الذري ممكنة ومقبولة لأن الجسيمات تخضع للدالة الموجية، أي أن الإلكترون يمكن أن يكون على اليسار أو يظهر فجأة على اليمين دون أن يوجد ولو للحظة في منطقة الوسط!! المدارات d : تتميز بأشكال أربعة فصوص أو أحيانًا حلقية (تشبه الدوناتس)، وهي مهمة في العناصر الانتقالية. تظهر هذه المدارات بشكل أكثر تعقيدًا مقارنةً بمدارات s وp، وتلعب دورًا رئيسيًا في التفاعلات الكيميائية للعناصر الانتقالية المدارات f: تكون أكثر تعقيدًا، حيث تحتوي على عدة فصوص وعقد. المدارات d مهمة في العناصر الانتقالية، بينما المدارات f توجد في اللانثانيدات والأكتينيدات، ولكل منها أنماط معقدة وفريدة تشير إلى أشكال معقدة. ملخص أشكال المدارات لفهم أفضل للأشكال المدارية المختلفة، يُعرض الجدول التالي الذي يصنف كل نوع من المدار بناءً على اسمه، ووصف لشكل المدار، والعناصر ذات الصلة بهذا الشكل: اسم الشكل أمثلة من العناصر كروي (مدار s) الهيدروجين H، العدد الذري 1، الهيليوم He، العدد الذري 2، الليثيوم Li، العدد الذري 3، البيريليوم Be، العدد الذري 4 دمبل (مدار p) البورون B، العدد الذري 5 إلى النيون Ne، العدد الذري أربعة فصوص / حلقي (مدار d) السكانديوم Sc، العدد الذري 21 إلى الزنك Zn، العدد الذري 30 متعدد الفصوص (مدار f) السيريوم Ce، العدد الذري 58 إلى اللوتيتيوم Lu، العدد الذري 71 والثوريوم Th، العدد الذري 90 إلى اللورنسيوم Lr، العدد الذري 103 الجدول الدوري وتمثيل المدارات يرتبط ترتيب الجدول الدوري بشكل جوهري بتكوين الإلكترونات للعناصر. ومع الانتقال عبر الدورات والمجموعات، نلاحظ تغييرات ممنهجة في أنواع المدارات التي يتم ملؤها: المجموعات 1 و2: هذه العناصر، الموجودة على الجانب الأيسر من الجدول الدوري، تحتوي على إلكتروناتها الخارجية في مدارات s. الأشكال الكروية للمدارات للعناصر مثل الليثيوم (Li) والبيريليوم (Be) تعكس تكويناتها الإلكترونية البسيطة. إذن بمجرد أن تشاهد الشكل الكروي (دائري في بعدين) فتعرف أن التكافؤ هو لإلكترونات المدارات s. المجموعات 13 إلى 18: مع الانتقال إلى الجانب الأيمن من الجدول، تحتل الإلكترونات الخارجية مدارات p. يمكن ملاحظة مدارات p ذات الشكل الدمبل للعناصر مثل البورون (B)، الكربون (C)، والفلور (F). يزداد عدد مدارات p الممتلئة مع الانتقال عبر المجموعة، مما يؤثر على توزيع كثافة الإلكترونات بشكل عام. العناصر الانتقالية (المجموعات 3 إلى 12): العناصر في كتلة العناصر الانتقالية تحتوي على مدارات d ممتلئة. تتميز هذه المدارات بأشكال أربعة فصوص أو أحيانًا حلقية، كما يظهر في الصور للعناصر مثل السكانديوم (Sc) والتيتانيوم (Ti). تلعب الأشكال المعقدة للمدارات d دورًا رئيسيًا في الكيمياء المتقدمة للعناصر الانتقالية، بما في ذلك قدرتها على تكوين تشكيلات معقدة و إظهار حالات أكسدة متعددة. اللانثانيدات والأكتينيدات: تحتوي عناصر المجموعة (اللانثانيدات والأكتينيدات) على مدارات f كمدارات خارجية. هذه المدارات أكثر تعقيدًا، وتحتوي على عدة فصوص وأنماط معقدة، كما يظهر للعناصر مثل السيريوم (Ce) واليورانيوم (U). تؤدي البنية المعقدة لهذه المدارات f إلى خصائص مغناطيسية وبصرية فريدة، مما يجعل عناصر الكتلة f مفيدة في العديد من التطبيقات التقنية المتقدمة. تصنيف المدارات والتكوين الإلكتروني يتم تصنيف المدارات بناءً على العدد الكمومي للزخم الزاوي (إل) (l): مدارات s (l = 0): كروية الشكل، يمكن لكل مدار s أن يحتوي على إلكترونين. مدارات p (l = 1): على شكل دمبل وموجهة على طول ثلاثة محاور (– px، py، pz). يحتوي كل غلاف فرعي p على ثلاثة مدارات p، يمكنها استيعاب ما يصل إلى ستة إلكترونات. مدارات d (l = 2): أكثر تعقيدًا، وتحتوي على أشكال تشمل أربعة فصوص أو حلقي. يحتوي كل غلاف فرعي d على خمسة مدارات d، والتي يمكن أن تحتوي على ما يصل إلى عشرة إلكترونات. مدارات f (l = 3): أكثر تعقيدًا في البنية، وتحتوي على سبعة توجهات مختلفة قادرة على استيعاب ما يصل إلى أربعة عشر إلكترونًا. تتبع التكوينات الإلكترونية للعناصر مبادئ الميل للطاقة الأقل، الذي ينص على أن الإلكترونات تشغل المدارات بطريقة تقلل من طاقة الذرة. يُبرز التمثيل البصري لهذه المدارات في الصورة كيفية احتلال الإلكترونات لمناطق مختلفة حول النواة، مما يؤدي إلى خصائص كيميائية مميزة. 4. العلاقة بين أشكال المدارات والخصائص الدورية ترتبط أشكال المدارات بشكل مباشر بخصائص العناصر: التفاعلية: تلعب الإلكترونات التكافؤية (تلك الموجودة في المدارات الخارجية) دورًا حاسمًا في تحديد تفاعلية العنصر. العناصر ذات مدارات s الكروية غالبًا ما تكون أكثر استعدادًا للتبرع بالإلكترونات (مثل الفلزات القلوية)، بينما العناصر ذات مدارات p نصف الممتلئة (مثل النيتروجين) تكون أكثر ميلًا لتكوين روابط تساهمية مستقرة. أنماط الترابط: يلعب توجه مدارات p دورًا مهمًا في تكوين الروابط. على سبيل المثال، تتشكل الروابط π من خلال التداخل الجانبي لمدارات p، بينما تتشكل الروابط σ من خلال التداخل النهاية للنهاية لمدارات s أو p. الاتجاهات الدورية: يوضح ملء المدارات المختلفة الاتجاهات الدورية مثل نصف القطر الذري، طاقة التأين، والسالبية الكهربائية. على سبيل المثال، مع الانتقال عبر الدورة، يؤدي إضافة المزيد من الإلكترونات إلى نفس مستوى الطاقة إلى زيادة الشحنة النووية الفعالة، مما يسحب المدارات بشكل أقرب ويقلل من نصف القطر الذري. باختصار ... تقدم الصورة منظورًا فريدًا للجدول الدوري، توضح أشكال المدارات الإلكترونية الخارجية لكل عنصر بطريقة جذابة بصريًا. من خلال فهم هذه الأشكال المدارية وتوجهاتها، نحصل على رؤية أعمق في السلوك الكيميائي للعناصر، وكيفية تكوين الروابط بينها، وكيفية تصنيفها داخل الجدول الدوري. تلعب الأشكال المميزة للمدارات s، p، d، وf، إلى جانب توجهاتها المحددة، دورًا حيويًا في تحديد التفاعلية والترابط والخصائص الفيزيائية لكل عنصر، مما يشكل الأساس لكثير من الكيمياء كما نعرفها. في راسك حب ما انطحن؟ عندك هذا الموقع التفاعلي: https://winter.group.shef.ac.uk/orbitron/atomic_orbitals/7d/index.html أو هذا الموقع أيضا: https://sketchfab.com/3d-models/atomic-orbitals-b716c2b71310439897d3f81602f6c799 فيديو توضيحي:
- اكتشاف مذهل: المجال الكهربائي للأرض دوره في الأيونوسفير والرياح القطبية والشفق القطبي
اكتشاف مذهل: المجال الكهربائي للأرض دوره في الأيونوسفير والرياح القطبية والشفق القطبي ناصر بن صالح الزايد nalzayed@gmail.com قبل أيام فقط عرفنا أن للأرض مجالا كهربائيا يحيط بها. فصار لدينا ثلاثة مجالات للأرض: المجال المغناطيسي، مجال الجاذبية الكونية، المجال الكهربائي. كيف بدأت القصة؟ في عام 1960 تم إرسال مركبة فضائية فوق أقطاب الأرض لدراسة الرياح القطبية (التي تسبب الشفق القطبي). رصدت هذه المركبة حركة رأسية واضحة للجسيمات المشكلة لتلك الرياح، وهي عبارة عن غبار أيوني (أو قل حساء أيوني كما يفضله البعض). فقد لاحظوا تلك الحركة الواضحة باتجاه الأعلى، وتم رصدها ونشر تقرير بذلك. سارع العلماء بوضع نظرية تفسر هذا الأمر، فكانت تلك النظرية تعتمد على فكرة التفاوت في درجات الحرارة أو مبدأ الحمل الحراري (أي هناك ما يشبه الغليان، حيث تطفو الأجزاء الأسخن إلى أعلى والعكس). مجال الأرض المغناطيسي مجال الأرض الجذبوي مجال الأرض الكهربائي بهذا فقد فسروا أيضا ظاهرة الشفق القطبي. كيف تحصل تلك الظاهرة؟ عندما تتحرك الشحنات الكهربائية (سواء كانت سالبة أم موجبه) في ظل مجال مغناطيسي فإنها تتألق، أي تشع طاقة. وهذا الأمر مثبت بالتجربة. فبما أنه قد تم رصد حركة الأيونات وتم تفسير الظاهرة بما سبق، فقد وصلنا إلى تفسير (مقنع) لظاهرة الشفق القطبي. تجارب ومشاهدات لاحقة حديثة أثبتت أن الأيونات المشكلة للرياح القطبية ليست حارة كما كان يعتقد، مما زاد من حيرتهم تجاه هذا اللغز، فإذن ليست ظاهرة اختلاف درجات الحرارة (الحمل الحراري) هي المسؤولة عن حركة الأيونات إلى الأعلى بسرعات تفوق سرعة الصوت، وبالتالي فلا علاقة لذلك بظاهرة الشفق القطبي ايضا. حديثا قامت بعثة علمية دولية أطلق عليها بعثة إندورانس مدعومة من وكالة ناسا NASA’s Endurance mission بإطلاق صاروخ خاص لدراسة الظاهرة من منطقة قريبة جدا من القطب الشمالي بغرض تتبع تلك الأيونات والتعرف على أسباب حركتها التي تفوق ما يمكن أن تصل إليه لو كانت الحرارة فقط هي السبب في ذلك. تم نشر البحث في مجلة نيتشر ، ونظر إليه العلماء على أنه اختراق علمي كبير، حيث إن إضافة المجال الكهربائي للأرض سوف يساهم في تفسير أمور كثيرة متعلقة بالأرض ونشأتها والحياة على ظهرها. يقول قلن كولنسن، رئيس الفريق البحثي "هناك شيء ما يسحب الأيونات إلى الأعلى باتجاه خارج الغلاف الجوي". كان بعض العلماء قد طرح إمكانية وجود مجال كهربائي ولو ضعيف جدا، غير أن التقنيات المتوفرة حتى وقت قريب كانت غير قادرة على إثبات هذه الدعوى. لكن كولنسن وفريقه فكروا في اختراع جهاز فائق الدقة مخصص لقياس هذا المجال وذلك ابتداء من العام 2016. بعد الانتهاء من صناعة هذا الجهاز وتجربته، قرر هذا الفريق إطلاقه من نقطة قريبة من القطب الشمالي، بواسطة صاروخ لا يبتعد كثيرا عن الأرض، ويمكنه الحركة في نفس اتجاه الرياح القطبية. تم إطلاق هذا الصاروخ في مايو 2022 من قاعدة قريبة من القطب الشمالي حيث وصل إلى ارتفاع 768 كم فوق سطح الأرض ثم وقع في بحر قرينلاند المجاور. أي أنه ظل لمسافة 520 كم ضمن تلك الرياح، وهي المسافة الفاصلة بين الطبقات الأقرب للأرض والطبقات العليا في الغلاف الجوي. أثبتت الأجهزة المضمنة للصاروخ وجود مجال كهربائي بقوة 0.55 فولت، وهي وإن كانت ضعيفة بالمقاييس الأرضية المعتادة، إلا أنها كافية على مدى كيلومترات من سحب الأيونات بالقوة التي تم رصدها سابقا. بل إن أيونات الهيدروجين (هيدروجين يفقد إلكترونه بسبب التأيين) يمكنها (نظريا وحسابيا) أن تتعرض بسبب هذا المجال إلى قوة تفوق 10.6 مرة قوة الجاذبية الأرضية التي تجذبها للأسفل. أي أن القوة لصالح الارتفاع تفوق كثيرا القوة لصالح النزول إلى سطح الأرض. الأيونات الأكبر، مثلا أيونات الأوكسيجين، تصبح على الأقل أخف إلى النصف منها بدون هذا المجال. باختصار فإن طبقة الأيونوسفير الأعلى في الجو تدين في ارتفاعها وزيادة كثافة الأيونات فيها بنسبة 271% إلى هذا المجال. كيف ينشأ المجال الكهربائي للأرض؟ تسبب الرياح الشمسية تأيين بعض ذرات الهواء، وعلى الأخص ذرات الهيدروجين (عن طريق كشط الألكترونات منها). بسبب أن الأيونات أثقل من الإلكترونات، فإنها تنغمس أكثر بالقرب من الأرض، في حين أن الإلكترونات تطفو إلى أعلى. وجود شحنات متخالفة يقود إلى مجال كهربائي باتجاه الأعلى بقوة 0.55 فولت تقريبا. هذا المجال يسحب معه الأيونات إلى الأعلى بقوة تفوق جاذبية الأرض. يظل هناك صراع لا يتوقف بين القوتين و بين الأيونات، حصيلته تظل لصالح رفع الأيونات وتكثيفها في طبقة الأيونوسفير. من الآن فصاعدا سوف يدخل المجال الكهربائي للأرض في تفسير كثير من الظواهر، اللافت أنه بالرغم من أنه في أرضنا ومؤثر على حياتنا، وواضح وضوح الشمس، ومع ذلك احتجنا إلى 60 سنة حتى نتأكد من وجوده. هل تتوقع أن تكون الأخبار الفضائية والأطروحات العلمية عن الأجرام البعيدة جدا جدا دقيقة بما يكفي؟ الأمر يحتاج إلى تأمل. فيديو يوضح كيف يتم التأيين تعليق لابد منه: تلاحظون من هذا المثال الصارخ كيف يقيد العلماء أنفسهم بنظرياتهم؟ إنها تصبح سجنا لا يسهل الخروج منه. عندما فسروا - نظريا - سبب حصول ظاهرة الرياح القطبية بحركة الأيونات تحتد تأثير الحمل الحراري، أغلقوا على العقل أن يتأمل في أسباب أخرى. ليس في كل مرة تظهر مؤشرات قوية على خطأ النظرية، ولهذا تسود النظرية لفترة قد تطول، وقد نحتاج إلى عملاق أو عمالقة يجرؤون على اتهام النظرية بالخطا، وهو أمر ليس بالسهل. فيديو للفريق المكتسشف References: Earth’s ambipolar electrostatic field and its role in ion escape to space
- قصة التحدي في اختراع الضوء الأزرق من الباعثات الثنائية
قصة التحدي في اختراع الضوء الأزرق من الباعثات الثنائية ناصر بن صالح الزايد مقدمة: لم يكن من الصعب الحصول على بواعث أو باعثات (دايودات مضيئة) بألوان الأحمر والأخضر، غير أن الحصول على اللون الأزرق مثل تحديا صعبا جدا تحطمت على صخراته جهود كثيرة ليس على مستوى الأفراد، بل حتى على مستوى الشركات الكبرى مثل IBM وغيرها. فكيف تم تحقيق هذا الحلم العملاق؟ طبعا علينا أن نعلم أن اللون الأبيض لم يكن ممكنا بدون توفر الثلاثة ألوان في نفس الوقت: الأحمر، الأخضر والأزرق. فكرة عمل الباعث LED (الدايود المضيء): عندما يمر تيار كهربائي في المصباح التقليدي (اللمبة) فإنه يسخن ويتوهج ومن ثم يطلق الضوء. كفاءة هذه اللمبة سيئة للغاية لأنه فقط بعض الضوء مفيد أما الباقي فيهدر بشكل حرارة. ولذلك مكلفة في فواتير الكهرباء. أما الليد (الباعث الضوئي) فإن فكرته مختلفة تماما حيث تقوم فكرته على أشباه الموصلات. عندما يتم تطبيق الجهد عبر الليد، تتحرك الإلكترونات من المادة النوع n إلى المادة النوع p ، وفي الوقت نفسه، تتحرك الثقوب في الاتجاه المعاكس. عندما يلتقي إلكترون بثقب في وصلة p-n، يهبط في مستوى طاقة أقل، مطلقًا الفرق بين طاقته السابقة وطاقته الجديدة على شكل فوتون - وحدة الضوء الأساسية. طول الموجة (وبالتالي اللون) للضوء الذي يصدره الليد يعتمد على طاقة الفجوة للمواد المستخدمة في وصلة p-n . تحدد هذه الفجوة الفرق في الطاقة بين حالة الإلكترون عالية الطاقة و حالته منخفضة الطاقة. المواد ذات فجوات الطاقة المختلفة تصدر فوتونات بأطوال موجية مختلفة، مما يتيح للليد إنتاج طيف واسع من الألوان. اللون الأبيض هو مزيج من جميع الألوان. تأمل معي كيف أن فوتونا واحدا يمكن أن يكون أحمر أو أخضر أو أزرق؟ أليس هذا أمر في غاية الإبداع؟ سبحان الله. لعلك أدركت مصدر التحدي؟ عندما نريد إنتاج ضوء بأشعة تحت الحمراء (مثل ريموت التلفزيون)، فيلزم طاقة فجوة في حدود 1.1 إلكترون فولت ويمكن الحصول عليها بسهولة من السيليكون أو من زرنيخيد الغاليوم (GaAs). يزداد التحدي قليلا عندما نريد ليدات باللون الأحمر الفاقع، حيث يمكن استخدام زرنيخيد الغاليوم مع الألومنيوم (AlGaAs)للحصول على طاقة فجوة في حدود 1.8 إلكترون فولت. ثم يرتفع مستوى التحدي أكثر للحصول على لون أخضر حيث يلزم استخدام نيتريدات الغاليوم (GaN) التي توصلنا لطاقة بمستوى 2.3 إلكترون فولت. لكننا نحتاج إلى قفزة جديدة لتوفير اللون الأزرق لكي نصل إلى 3.0 إلكترون فولت، حيث استغرق الكفاح عدة عقود من الزمن لتحقيقه بسبب صعوبة توفير مركب يملك هذه الخاصية. معارك التحدي الطاحنة لتحضير ليدات بلون أزرق: بسبب الأهمية البالغة للسبق في إنتاج اللون الأزرق وما يعود به من الثروات الهائلة للشركات و للباحثين، فقد اشتعلت نار الحرب الضروس التي بدأت بعد إعلان المهندس الكهربائي لدى شركة جنرال إلكتريك، نك هولونياك Nick Holonyak تمكنه من إنتاج أول باعث يصدر ضوءا يمكن رؤيته بالعين (أحمر) في العام 1962 من مركب: GaAs0.60P0.40 . مع أن هولونياك يسمى (أبو الليد)، غير أنه في الحقيقة ليس المؤسس الحقيقي لهذه التقنية، بل يعود الفضل الأصلي للعالم الروسي أوليق لوسيف Oleg Losev الذي نشر في عام 1927 نظرية عمل الليد، وما عمل هولونياك إلا تطبيق لتلك النظرية. ولعل من المناسب ذكر شيء عن هذا العالم الشاب الذي توفي قبل أن يبلغ 40 سنة، ولم يتمكن من الحصول على أية شهادات علمية متقدمة، ولم يتمكن من الاستقرار حتى في أي مكان علمي أو بحثي، إلا أنه تمكن من نشر 43 بحثا مع 16 براءة اختراع، كان من ضمنها نشره لأول نظرية علمية توضح كيف يمكن إنتاج باعث ثنائي مشع للضوء. كما أن هناك مساهمات أخرى لا يهمنا أن نتوقف عندها كثيرا طالما هدفنا الأساسي هو الاطلاع على معالم المعركة التي أشرنا إليها. إنها معركة ذات البواعث الزرقاء. بعد أن تحطمت آمال وأحلام العلماء والشركات والباحثين وأنفقوا مئات الملايين من الدولارات دون جدوى، كما يعبر عن ذلك كلمة قالها مدير شركة مونسانتو والبعض ينسبها لهولونياك نفسه (يقصد الليدات): " لن تحل محل إضاءة المطبخ أبدًا، ستُستخدم فقط في الأجهزة ولوحات القيادة بالسيارات وأجهزة الاستريو لمعرفة ما إذا كان الاستريو يعمل". بالفعل انتشر استخدام الليدات في أجهزة كثيرة كان من أشهرها ظهور الآلات الحاسبة الرقمية كتلك التي في الصورة. واستمر الوضع دون تغيير، وشبه توقف البحث لدى معظم الجهات لمدة قاربت 30 سنة، ولم يتبق إلا المحاولات الفردية، لولا أن قيض الله باحثا يابانيا من نوع خاص، يتسم بحب الكفاح، وصناعة المستحيل. مع صورة واضحة للهدف الآن: هناك حاجة لطاقة فجوة في حدود 3 إلكترون فولت. كان شوجي ناكامورا Shuji Nakamura باحثًا في شركة كيميائية يابانية صغيرة تُدعى ناشيا. كانوا قد توسعوا في إنتاج أشباه الموصلات لاستخدامها في تصنيع الـليدات الحمراء والخضراء. لكن بحلول أواخر الثمانينات، كان قسم أشباه الموصلات يلفظ أنفاسه الأخيرة حيث كانوا في مواجهة شركات أكثر رسوخًا في السوق و لذلك كانوا يخسرون، بدأت التوترات تتصاعد، حيث كان العاملون الأقدم منه يعتبرون بحثه مضيعة للمال الذي كان شحيحًا في تلك الشركة الصغيرة. بحلول عام 1988، كان المشرفون على ناكامورا محبطين جدًا من بحثه لدرجة أنهم طلبوا منه أن يستقيل. لذا، ومن باب اليأس قدم اقتراحًا ثوريا لمؤسس الشركة ورئيسها. ماذا لو كانت ناشيا هي التي تنجح في إنتاج الـليد الأزرق الذي فشلت فيه شركات مثل سوني وتوشيبا وباناسونيك جميعًا. ماذا لو كانت ناشيا هي من يمكنها خلقه بعد خسارة تلو الأخرى على أشباه الموصلات لأكثر من عقد. أقدم رئيسه، أوغاوا، على المخاطرة وخصص ثلاثة ملايين دولار أمريكي، وهو ما يعادل تقريبًا 15% من أرباح الشركة السنوية، لمشروع ناكامورا الطموح. كما سبق هدف ناكامورا صار واضحا: البحث عن مركب جيد يوفر الطاقة المطلوبة أو يفوقها: 3 إلكترون فولت. إذن كانت هناك حاجة لبلورات نقية جدا خالية من أية شوائب. كانت أول خطوة في خطته أن يستأذن من مديره للسفر إلى فلوريدا بالولايات المتحدة لأخذ قسط جيد من التدريب على يدي زميل له هناك وذلك على استخدام تقنية جديدة في ذلك الوقت تُسمى الترسيب الكيميائي للبخار العضوي المعدني أو MOCVD، وهو عبارة عن نوع من الأفران المتخصصة في تبخير عناصر معينة ثم ترسيبها على شرائح خاصة، حيث كانت المعضلة الأساس هي أن تتوافق بلورة البخار عندما يترسب مع بلورية الشريحة. لسوء حظ ناكامورا فقد منع من استخدام ذلك الفرن، مما اضطره لصناعة فرن خاص به من الصفر، كما أنه كان شخصا غير مهم بين العاملين هناك كونه لا يحمل شهادات علمية، خاصة الدكتوراه، وليس لديه سجل بالنشر العلمي كونه أثناء عمله في الشركة اليابانية كان يعامل معاملة الفني ولا يوضع اسمه ضمن الباحثين الآخرين. فقرر مواجهة هذه المعضلة بعزيمة وإصرار ليس له نظير. عاد إلى اليابان بعد حوالي سنة في فلوريدا أي في العام 1989، وهو يضمر الرغبة الملحة في الحصول على الدكتوراه. لحسن حظه فقد كانت اليابان في وقتها تسمح بالحصول على الدكتوراه دون المرور بالنظام التقليدي ولا حتى الدراسة في الجامعات، بشرط نشر خمسة بحوث علمية محكمة كحد أدنى. وكان عليه أن يختار أيضا مركبا يعمل عليه لنشر بحوثه، وأقل شيء أن يحصل على الدكتوراه، وإن وجد ضالته في الضوء الأزرق فهو الهدف الأسمى. وقع اختياره بعد دراسة وافية على مركب نيتريدات الغاليوم الذي حتى ذلك الوقت لم يتمكن العلماء من تحضير إلا نوع n منه باستخدام السليكون، وكان الطريق تقريبا مسدودا للحصول على النوع p . للمعلومية كانت هناك محاولة سابقة للحصول على ضوء أزرق من هذا المركب في العام 1972 من قبل باحث آخر يعمل في شركة RCA غير أنه ضوء خافت لا يعتد به حيث كان من شروط الضوء المقبول أن يكون أعلى من 1000 مايكرواط. هل عرفت لماذا أعرضنا عن التوسع في شرح الخط الزمني سابقا؟ نعم توجد محاولات لدى الباحثين لكنها لا تحقق جميع الشروط ومنها شدة الإضاءة. كان من ضمن دراسة ناكامورا للأمر أن حضر مؤتمرا في اليابان حول الموضوع فلاحظ أن جميع المشاركين يركزون على مركبات أخرى يقع على رأسها مركب سيلينيد الزنك، بينما حظي نيتريدات الغاليوم على أقل من عدد أصابع اليد الواحدة من البحوث. كان ناكامورا قد اشترى فرنا خاصا به يشبه الفرن المذكور في فلوريدا، غير أن جميع محاولاته للحصول على مركب نقي على الشريحة المتوفرة لديه كانت تنتهي بالفشل الذريع. قرر أن يقوم بتفكيك الفرن وبنائه من جديد بنفسه لإضافة سمة يبحث عنها. استمر لمدة تجاوزت العام في عمل دؤوب حيث كان يحضر في السابعة صباحا ولا يعود إلا عند السابعة مساء، يعمل بلا كلل ولا ملل سبعة أيام في الأسبوع، بدون إجازات أو فترات راحة لبناء فرن أحلامه وتجربته. فجأة وعندما كان يدرس أحد عيناته التي حضرها لاحظ أن لديها حركية إلكترونية بأربعة أضعاف ما تم نشره سابقا على نفس المركب (نيتريدات الغاليوم). طار من الفرح حيث كان يمثل بصيص أمل كان في أشد الحاجة إليه في نهاية فترة عصيبة من العمل المضني. كان كل ما أضافه إلى الفرن أن ضمنه مصدرا للهواء الخامل كي يؤثر على البخار ويوجهه باتجاه الشريحة التي يترسب عليها. هذه الإضافة لم تكن معروفة في تلك الأفران وهي من بنات أفكاره. سمي هذا الفرن لاحقا بالفرن ذي الفتحتين. بهذا فقد حصل ناكامورا على بلورات أكثر نقاوة من أي بلورات سابقة حتى تلك التي أنتجها باحثون مشهود لهم بالكفاءة. لكن الأمور تسير أحيانا باتجاه التحدي وتتراكم الصعوبات فجأة في وجه المرء ما قد يؤدي إلى استسلامه. تغير مدير شركة ناشيا، وجاء بعده مدير صارم لم يكن يعتقد بنجاح أفكار ناكامورا، وكان لسوء حظه أيضا أن حضر المدير التنفيذي لشركة ماتسوشيتا اليابانية المتخصصة في الليدات والتي تعتبر أكبر عميل للمواد الكيميائية التي تنتجها شركة ناكامورا (ناشيا)، وألقى محاضرة جاءت على رأس ناكامورا كالصاعقة حيث أظهر أن المسار باتجاه الضوء الأزرق هو من خلال سيلينيد الزنك وليس نيتريد الغاليوم الذي ليس له مستقبل. طالبه المدير الجديد بتقديم استقالته فورا واعتبر أن عمله طوال الفترة الماضية هو مجرد مضيعة للوقت والمال. كان هذا الطلب من خلال خطاب مكتوب استلمه ناكامورا وعندما قرأه مزقه ورماه في القمامة! وتكرر الأمر لعدة مرات وهو لا يزيد على تمزيق الخطابات ورميها في القمامة، وكانت أحيانا تتبع باتصالات هاتفية يتملص منها في كل مرة. سارع ناكامورا بنشر بحثه الأول عن الفرن ذي الفتحتين دون علم شركته. حتى اللحظة تمكن هذا المهندس من تحضير النوع الأول (نوع n) وبدأت معركته الشرسة مع النوع الثاني (p) حيث يلزم توفير النوعين. تذكر أنه لم يتم إنتاج هذا النوع من قبل، غير أن هناك عالمان آخران قد تمكنا من إنتاج عينات ابتدائية بعد تطعيم المركب بعنصر المغنيسيوم، لكنها لا تعمل إلا عندما تشعع بالإلكترونات. تخيل عشرون عاما من العمل القاسي للحصول أخيرا على نوع p من نيتريد الغاليوم المطعم غير أنه يحتاج إلى تشعيع لكي يعمل. لم يكن أحد من العلماء يفهم لماذا يصنع التشعيع هذا الفرق؟ غير أن هذا كان بمثابة تلميح قوي لناكامورا للتفكير بنفس تفكير العالمين. تساءل مثلهم: ما دور إلكترونات التشعيع يا ترى؟ فخطر على باله أنها ربما ترفع من مستويات الطاقة، وهذا يمكن تحقيقه بطريقة أخرى أسهل وهي التسخين. تمكن فعلا من النجاح بالتسخين عند حرارة 400 درجة مؤية، وفي حين أن تأثير الإلكترونات التشعيعية يتوقف عند حدود المناطق السطحية للعينات، فإن التسخين يصل إلى جميع العينة بما في ذلك أجزاؤها الداخلية. بذلك فقد توفرت جميع الأجزاء الرئيسية لدى المهندس الذي يشتعل طموحا لكي يبدأ تجاربه الأولى لإنتاج الضوء الأزرق. تمكن بالفعل من إنتاج بواكير الليدات الزرقاء وقدم ورقة في ورشة علمية في الولايات المتحدة في عام 1992 حيث حاز على تفاعل منقطع النظير مع الحضور مخلوطا بالتصفيق والإعجاب. كانت تلك الدايودات المضيئة تعطي طاقة تصل إلى 42 مايكرو واط فقط (تذكر شرطنا السابق بضرورة تجاوز 1000 مايكرواط). في تلك الأثناء ارتفعت وتيرة خطابات مديره الجديد، وكان يقول له بالحرف: لا نريدك ولا نريد عملك. يقول ناكامورا "لم أعد أعير خطاباته أي اكتراث، كنت واثقا أن أمامي مفاجئات كبيرة". حاليا بقيت عقبة واحدة فقط أمام ناكامورا: رفع قوة الإشعاع إلى عتبة الألف مايكرواط. كان لدى الرجل الخبرة والمعلومات الكافية، حيث إنه معلوم لديه أن طريقة رفع طاقة الإشعاع في المرات السابقة تتم عن طريق إضافة فلم رقيق بين جزئي الثنائي أي بين n و p وكان معروفا لديه أن نيتريدات الغاليوم مع الإنديوم هي الخيار الأمثل. هذه الطبقة الرقيقة تشجع مزيدا من الاندماجات بين الإلكترونات والثقوب. كانت هناك مقولة معروفة لدى علماء هذا المجال: الغاليوم لن يختلط مع الإنديوم إلا إذا اختلط الماء بالزيت. لكن هذا مع غير ناكامورا الذي يتميز بالقدرة الفائقة على المناورة من خلال فرنه الذي صار يطوره لتلبية أي احتياج. قرر تجربة أن يضخ كميات كبيرة من الإنديوم على نيتريدات الغاليوم على أمل أن يحصل تفاعل بينهما. لدهشته فقد تم له ما يريد، غير أنه أعطى نتائج عكسية في فجوة الطاقة حيث تقلصت تحت العتبة المطلوبة. قرر إضافة الألمونيوم إلى المركب بغرض رفع فجوة الطاقة، وتحقق له ما أراد. قام بربط الدايود بالتيار الكهربائي، الذي أشع ضوءا أزرق يفوق كل المعايير التي كان يطمح لها. كانت طاقة الإشعاع فوق 1500 مايكرواط متجاوزة بذلك الهدف المطلوب بـ 500 مايكرواط. وبهذا فقد نجح هذا المهندس العملاق لوحده على ردم فجوة تقنية لم ينجح في ردمها آلاف من الباحثين والمهندسين والشركات على طول الأرض وعرضها، وعلى فترة استمرت لأكثر من 30 عاما فتأمل!! كتب ناكامورا: "شعرت كما لو كنت قد وصلت إلى قمة جبل فوجي". ذهلت شركات الإلكترونيات حول العالم ولم يصدقوا ما يسمعون، مما حدا بشركته ناشيا إلى عقد مؤتمر صحفي أعلنوا فيه أهم إعلان في عالم الإضاءة منذ فجر التاريخ. تفجرت الأموال في يد ناكامورا وفي يد شركته التي تضاعفت ميزانيتها عدة مرات خلال السنوات التالية. طبعا أصبح الآن الطريق ممهدا لإنتاج إضاءة بيضاء ناصعه مثل الشمس حيث إن الضوء الأبيض هو مزيج من الألوان الثلاثة: أحمر، أخضر، أزرق. حاليا شركة ناكامورا التي كانت تحاول طرده، مداخيلها بالمليارات، وأصبحت أكبر شركة لإنتاج المصابيح البيضاء، في تجارة تبلغ مداخيلها العالمية في حدود 100 مليار دولار. انفجرت الصناعات بعد هذا الاكتشاف حيث ظهرت أنواع الشاشات المسطحة، وأنواع من الإضاءة البيضاء، وتطورت الشاشات، و تقلصت تكاليف فواتير الكهرباء بشكل حاد، كما تقلصت تكاليف المصابيح الليدية البيضاء بشكل حاد أيضا بعد انتشارها ونقل التقنية لعدة شركات، كما تضاعفت قدرات تخزين البيانات في الأقراص الضوئية. ناكامورا حاليا ترك شركته وصارت بينهم مشاكل بسبب اتهامه تسريب معلومات حول اكتشافه، وهو يعمل برفسورا في علوم المواد في كلية الهندسة لدى جامعة كالفورنيا، سانتا باربارا، في الولايات المتحدة. يشار إلى أنه حصل على جائزة نوبل (بجدارة) في عام 2014 بالتشارك مع اثنين آخرين مقابل هذا الاكتشاف. إضافة إلى ذلك فقد نال جوائز أخرى مثل جائزة الألفية في التكنولوجيا وهي تقارن بنوبل، وجائزة هارفي، وجائزة الطاقة الدولية بالإضافة إلى جائزة الشيخ زايد وغيرها. Reference: The Blue Laser Diode: The Complete Story. Shuji Nakamura , Stephen Pearton ,Gerhard Fasol, Springer 2000. https://link.springer.com/book/10.1007/978-3-662-04156-7
- تأملات في سورة النمل
تأملات في سورة النمل ناصر بن صالح الزايد عندما تستعرض سورة النمل ترتسم في ذهنك صورة كبيرة تجمع أطراف الدورة الكونية، وتشير في كل مرة إلى دورة الكون العملاقة: الدنيا، القيامة، الآخرة. وتؤكد أن الله (يبدأ الخلق ثم يعيده) في دورة لا يعلم إلا الله كيف تتكرر وكم تتكرر. والسورة في ثناياها تذكر قضايا ضرورية لكي تؤكد لأصحاب الشكوك أن تلك الدورة حقيقة لا ريب فيها، من خلال بيان قدرة من يتحدث عنها وعمق علمه ودقة وصفه. سوف نستعرض هنا قصة سليمان – عليه السلام – المحتوية على مؤشرات علمية مهمة، وعلى فهمه لغة الطير والحيوانات، وحديثه مع الهدهد، ومع النمل، ومع العفريت من الجن، والعفريت الآخر الذي عنده علم من الكتاب، وقصة الدابة التي تكلم الناس قبيل قيام الساعة، وقصة النفخ في الصور والذي يعد شرارة النهاية، وبعضا من ملامح قيام الساعة والأهوال التي تقع فيها والتي أقلها أن تسير الجبال مثل السحاب. كونوا معي في هذا العرض الرائع لسورة ممتلئة بالدلائل الكبرى على حقائق دامغة لا ينبغي لحازم وعاقل أن يغفل عنها. أول ما يلاحظ على السورة كثرة ورود (الآخرة): 1. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) 2. إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) 3. أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) 4. بَلِ ٱدَّٰرَكَ عِلۡمُهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ بَلۡ هُمۡ فِي شَكّٖ مِّنۡهَاۖ بَلۡ هُم مِّنۡهَا عَمُونَ (66) ومع أن القرآن إجمالا ذكر الدنيا 115 مرة والآخرة 115 مرة أيضا مما يؤكد الدورة الكونية بنصفيها، ويؤكد أهم سمة في الخلق وهي سمة التناسق، مثلما يؤكد تساوي أعداد الليل مع أعداد النهار بأنهما ينتميان للدورة اليومية ذاتها. إلا أن هذه السورة لم تذكر لفظة الدنيا بتاتا، بل خلت منها بشكل لافت، كونها موجهة بالكامل لحقيقة الآخرة الدامغة، ولشد الانتباه للخطر الداهم القادم، وتركيز الطرق على ذات الهدف، فليس الموضوع موضوع مقارنات، بل تم تركيز كل القوة إلى هدف واحد، وواحد فقط، منذ بداية السورة وحتى نهايتها عندما ختمت بقوله تعالى (وَقُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ فَتَعۡرِفُونَهَاۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ). فمازالت تلك الآيات تتوالي بلا توقف، وعندما تقع يعرفها الناس كما سنرى في بعض الآيات التي وردت في الماضي في هذه السورة. وثاني ما يلفت النظر في السورة كثرة المؤشرات التي تثبت علم الله وقدرته: 1. قصة عصى موسى التي تتحول إلى ثعبان مبين 2. قصة يد موسى التي تتحول إلى بيضاء من غير سوء في تسع آيات أخرى 3. معرفة منطق الطير لدى سليمان عليه السلام 4. حشر الجن ضمن جنود سليمان عليه السلام 5. حشر الطير أيضا ضمن إمكانيات هذا النبي الكريم 6. حديث النملة قبيل مقدم سليمان عليه السلام وفهمه حديثها إلى درجة التبسم، وعمق فهم النملة لحقيقة خلقها وتركيبة جسدها الصغير 7. حديث الهدهد مع سليمان 8. قدرة العفريت من الجن على إحضار عرش مادي خلال آلاف الكيلومترات في وقت قصير 9. قدرة العفريت الذي عنده علم من الكتاب على فعل الشيء نفسه ولكن خلال غمضة عين، متجاوزا بذلك جميع النظريات والقيود الفيزيائية المعروفة حاليا. 10. حديثه عن الدابة التي سوف تخرج بعد طلوع الشمس من مغربها تكلم الناس أنهم كانوا بآيات الله لا يوقنون، وهذه الدابة سيراها الناس يوما ما وتصبح حقيقة دامغة ولكن بعد فوات الأوان 11. حديث السورة عن النفخ في الصور بصوت مجلجل يفزع بسببه من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله 12. حديث السورة عن أحد أظهر معالم التغير الكوني الهائل أثناء قيام الساعة حيث تطير الجبال كأنها سحاب، بسبب فقدها لكتلتها وجاذبيتها وانفصالها عن الأرض نتيجة حصول ظاهرة تفكك الفراغ الكاذب، وهي حقيقة علمية صارخة. والسورة بشكل عام مملوءة بالعلم وبنوده، علم الله، علم داود و سليمان، علم الذي سيحضر عرش بلقيس، علم الهدهد، علم النمل ... ولو أنك تأملت في هذه المعجزات العلمية الباهرة لوجدتها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أولها وقع بالفعل وعاشه قوم آخرون وشاهدوه بأم أعينهم، فهل نفع بهم؟ وثانيه: حقائق يمكن الكشف عنها حاليا والتأكد من صحتها وصدقها. والثالث: قسم آت لا محالة يؤكد صدقه وقوع القسم الأول والثاني، فهل ينفع مع المعرضين؟ وهذه الآيات وردت مرتبة في خط زمني دقيق: فمثلا آيات موسى وقعت أمام فرعون وقومه، فآمن من آمن وكفر من كفر، ومناقشة سليمان مع النمل والهدهد ظهر منها معلومات يمكن التأكد منها، فأجسام النمل (تتحطم) لأنها كالزجاج، والهدهد يتحدث عن الخبء، وهو الذي لديه قدرة على الكشف عن الماء تحت التراب. وأما العفريت الأول من الجن فقد نص القرآن على أنه من الجن، وأما الثاني فقد أشار إلى أن لديه علما من الكتاب، ولا يوجد لدى البشر كتاب غير معلوم، على الأقل في وقت سليمان عليه السلام، وأنبياء اليهود هم أهل العلم وأهل الكتب وأهل توارث النبوة والملك. وبغض النظر عن تسويد التفاسير بأقوال لا تستند على نصوص شرعية معتمدة حول حقيقة هذا الذي أوتي علما من الكتاب، فمن المؤكد أنه جني آخر. ويكفيك التأكيد على العلم الذي لدى العفريت الأول؟ فمن ذا الذي يمكنه إحضار عرش ضخم على مسافة ألاف الكيلومترات، خلال بضع ساعات، إلا من لديه علم. فلذلك لا غبار أن العلم الذي لدى صاحبه الآخر، أكثر منه، وأنه معروف لدى علماء الجن، وأنه وصل إليهم عبر الزمن من أبيهم إبليس الذي كان على عهد بالسماء ويعيش في الملأ الأعلى قبل رفضه السجود لآدم، وهو الذي كشف من خلال حواره مع ربه على أعقاب ذلك الرفض المشؤوم أنه سوف يفعل في ذرية آدم ما سوف يفعل، وأنه يعلم أن الدنيا سوف تنتهي، وأنهم سوف يبعثون، ويعلم الوقت المعلوم الذي حدده له ربه. فهو إذن صاحب علم بالمستقبل، وهو صاحب ذلك العلم الذي استند إليه العفريت، وربما أنه أمر ميسور وسهل بالنسبة لعالم الجن خاصة وأنهم قد خلقوا قبل بني آدم بوقت طويل (والجان خلقناه من قبل من نار السموم). ولهذا فإن البشر سوف يحققون الكثير من المكاسب لو توصلوا إلى إمكانية التعامل والتعاون (العلمي) مع الجن، تعاونا لا يقود إلى الشرك، ولا إلى الانصياع للجن، وهو أمر أشار القرآن إليه في أكثر من موضع منها (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ). فلاحظ أنه بدأ بالجن لأهميتهم وتميزهم في هذا الجانب. وفي موضع آخر قال تعالى (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) وهو تحد بما يمكن وقوعه وإلا فما قيمته؟ وقد بينت هذه الآية أن مظاهرة الجن للإنس مدعاة لمزيد من القوة. وهاهو سليمان عليه السلام يستعين بالجن ويجعلهم جزءا من قوته دون أن يقوده ذلك إلى الشرك أو الشعوذة. وبالتأكيد فهذا موضوع سوف يرفضه الأغلبية، بسبب ظنهم أنه لا يمر إلا عبر الإخلال بالتوحيد والوقوع في الشرك، ولا يبدو أن الالتقاء بالجن دون الوقوع في هذه المحظورات أمر مستحيل لا عقلا ولا شرعا. أخيرا، وفي محافظة على خط زمني صاعد أو متجه باتجاه الآخرة، يرد الحديث عن ثلاثة أمور وقوعها مؤكد في قادم الأيام، وهي خروج الدابة، والنفخ في الصور (يؤدي إلى انعدام الكتلة ومن ثم الجاذبية)، و تحليق الجبال كالسحاب في الجو نتيجة انعدام الكتلة والجاذبية. فإن آمنت بما سبق فيتحتم عليك الإيمان بالقادم فهي تسرد أمامك في سورة واحدة ومن رب واحد، وإن رفضت ما سوف يأتي فلا معنى لتصديقك بما سبق، لأن الإيمان هو بالآتي وليس بما ثبت رأي العين. إن السورة بأكملها ترسم معالم الحياة القادمة (الآخرة) وكيف ستنتهي هذه الدنيا وكيف سيكون العبور إلى الآخرة، وتملأ المشهد بما يؤكد صدق المتحدث كما سبق ذكره، وبالتالي صدق إنذاره وتحذيره. إن المسالة الأساسية إذن هي (الآخرة)، إنها قضية القضايا، وهي كذلك من زاوية من يرى الصورة كاملة، فيقرع جميع الأجراس لعل نائما أن يصحو أو أن غافلا يتذكر. اليقين بالآخرة – بحسب السورة – مؤشر على الإيمان. قسمت السورة في أول آياتها الناس إلى فريقين: من يؤمنون بالآخرة، ومن لا يؤمنون بها. وحتى يطمئن الفؤاد إلى قوة ما سوف يأتي من معجزات علمية باهرة، ووعيد خطير بنهاية مرعبة للدنيا، تثني السورة مؤكدة (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلۡقُرۡءَانَ مِن لَّدُنۡ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) وهو علم سوف يتأكد من خلال القادم من الآيات. ثم بدأت السورة تسرد قصة من القصص المؤلمة والمأساوية والمتكررة صورتها مع هذا الإنسان، إنها قصة التكبر ورفض الإيمان بالله. في قصة فرعون وموسى. يظهر القسمان اللذان سبقت الإشارة إليهما: فرعون ومن معه (لا يؤمنون بالآخرة) وموسى ومن معه (يؤمنون بها). ما هو سبب الرفض والعناد؟ إنه الظلم والعلو. ودون إسهاب شديد في سرد قصص النبيين مع أقوامهم كما هي عادة القرآن في بعض السور، فيكتفي هنا بمثالين: قوم ثمود وقوم لوط، ويلخص قصصهم: دعوة، ثم رفض، ثم عذاب وإهلاك. وهي نسخة مطابقة لما سبق مع فرعون. قصة فرعون رسمت الإطار الأول للصورة وقصة هذين النبيين رسمت الإطار الموازي له. وفي شحذ لهمم الناس لأخذ الحيطة من الآخرة ومعرفة الرب الذي يحذرهم، يسرد القرآن في هذه السورة عدة آيات لا يوجد في السور الأخرى ما يشبهها في توالي إيقاعها باتجاه نفس الهدف وكأنها مطارق تتوالي بسرعة من أجل أن تضرب الصخر من زوايا مختلفة حتى يتفتت ويتهاوى: 1. أَمَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ 2. وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَنۢبَتۡنَا بِهِۦ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهۡجَةٖ 3. أَمَّن جَعَلَ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارٗا 4. وَجَعَلَ خِلَٰلَهَآ أَنۡهَٰرٗا 5. وَجَعَلَ لَهَا رَوَٰسِيَ 6. وَجَعَلَ بَيۡنَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ حَاجِزًاۗ 7. أَمَّن يُجِيبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ 8. وَيَكۡشِفُ ٱلسُّوٓءَ 9. وَيَجۡعَلُكُمۡ خُلَفَآءَ ٱلۡأَرۡضِۗ 10. أَمَّن يَهۡدِيكُمۡ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ 11. وَمَن يُرۡسِلُ ٱلرِّيَٰحَ بُشۡرَۢا بَيۡنَ يَدَيۡ رَحۡمَتِهِ 12. أَمَّن يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ 13. وَمَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِۗ لاحظ كيف تزلزل هذه التساؤلات المتتالية النفس البشرية، فهي لا تجد مفرا في نهاية الأمر إلا أن تردد مع الآيات: 1. أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمٞ يَعۡدِلُونَ 2. أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ 3. أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ 4. أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ تَعَٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشۡرِكُونَ 5. أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ؟؟؟؟؟؟ قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ وقد يظن البعض أن الإله المذكور مع الله هو صنم ساذج مثل هبل أو يغوث ويعوق ونسرا! وينسون أن إله العلم المزعوم، وغيره من الآلهة المستحدثة، قد صرفتهم عن الإله الحق أكثر مما فعلت تلك الأصنام الصماء! وقد يظهر في صورة أصنام ذهنية لعلماء يصدون الناس عن ربهم من حيث لا يشعرون!. وقد يستغرب المرء من توالي كل تلك المطارق على القلوب غير أن بعضها لا يكترث، فتوضح الآيات (إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين (80) وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون (81)). لن تحتاج إلى فلسفة طويلة وعريضة ولا إلى علوم معقدة حتى تشاهد الصورة الواضحة التي تتحدث عن نفسها، غير أنك تحتاج إلى قلب منيب، يسمع فيستجيب، بلا تردد، بلا فلسفه، بلا أخذ ورد، وبلا تكبير وتصغير. توضح هذا نفس السورة قائلة (وأمرت أن أكون من المسلمين (91) وأن أتلو القرآن، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين (92)). استمع لهذا القرآن أعرابي لا يكتب ولا يقرأ فآمن فدخل الجنة، واستمع إليه متعلم يملك أعلى الشهادات فكابر وجادل، ومات فدخل النار. (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
- تأملات في قصة صاحب الجنتين
بسم الله الرحمن الرحيم تأملات في قصة صاحب الجنتين تحدث القرآن بغزارة عن الشرك وحذر منه أشد التحذير، وفي المقابل تحدث عن التوحيد الخالص وبين أنه محور العلاقة مع الله. ولكننا عندما نتأمل في حياة الناس قد يبدو لنا أن هذا الحديث حول الشرك والمشركين والبراءة منهم ومن شركهم، لم يعد له ما يبرره، فلا نرى أن أحدا يشيد بالأصنام فضلا عن أن يعبدها أو يسجد لها أو يصرف أي شيء من أمور حياته في سبيلها. بل قد لا نبالغ إذا قلنا إن عبادة الأصنام بالصورة التقليدية التي كانت موجودة أيام الرسل أصبحت أمرا تمجه فطر الناس وحضارتهم، فلا نتخيل أن أحدا يسجد لكتلة جامدة بصورة إنسان أو حيوان أو حتى إله مدعى، وبخلاف ما قد يوجد في بعض البلدان المتخلفة حتى في طرائق الشرك، فإن هذه هي الصورة الواضحة في معظم قارات الدنيا. فلم إذن يزخر القرآن الكريم بآيات الشرك والتوحيد، وهو الكتاب الذي أنزل إلى الناس كافة، و إلى الجن كافة. وللإجابة على هذا التساؤل سوف أستعرض وإياكم قصة صاحب الجنتين في سورة الكهف مع صاحبه الذي تحاور معه، وظهرت من خلال حوارهما بشكل جلي أمور حري بنا أن نكشفها لكي لا يبقى لجاهل عذر. هذا أولا سرد بالآيات لمن لا يحفظها: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ﴿32﴾ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا ۚ وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ﴿33﴾ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ﴿34﴾ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا ﴿35﴾ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ﴿36﴾ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ﴿37﴾ لَٰكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ﴿38﴾ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا ﴿39﴾ فَعَسَىٰ رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ﴿40﴾ أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ﴿41﴾ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ﴿42﴾ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ﴿43﴾ هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ۚ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ﴿44﴾ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ﴿45﴾ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴿46﴾ أول ما يلفت النظر هو حديث القرآن عن الجنتين نفسيهما، بحيث يرسم صورة أخاذة لهما ... فهما من أعناب ... و يحفهما النخل ... ويتوسطهما الزرع ... وهما ممتلئتان بالثمار ... و يجري ماء النهر في ثناياهما. قد يستغرب المرء لم يرسم القرآن مثل هذه الصورة الساحرة عنهما ويسميهما اسما بحد ذاته له وقع خاص (جنتين)، مع أن الأمر في نهاية المطاف لا يتجاوز أن تكون مزرعة من قسمين؟ إن المشكلة ليست من القرآن، بل من الإنسان نفسه، فالقرآن يرسم الصورة الحقيقية لهذا العطاء، غير أن الإنسان بسبب تعوده و موت إحساسه تبدو له تلك الجنان مجرد زراعة، تعودت عليها نفسه، ولم يعد لها ذلك الجمال. وهذه مشكلة متكررة مع الإنسان، فبالتعود صار الكسوف والخسوف مجرد حجب أشعة الشمس بالأرض أو القمر! وصار المطر والبرق والرعد وحركة السيول الجارفة في الأرض مجرد دورة طبيعية للماء في الطبيعة! مع أنه لو تأمل في ارضه التي يقف عليها وتصورها في الفضاء لا يسندها شيء، وهي مع ذلك باقية في هذا الفضاء منذ خلقت الدنيا، لاقشعر بدنه، واهتز قلبه. والقرآن يعيد الصورة لحقيقتها في كل مرة لعل الإنسان الذي من طبيعته الغفلة أن يتذكر أو يتأمل أو يعود إليه رشده! فلينظر الإنسان إلى طعامه! أنا صببنا الماء صبا! ثم شققنا الأرض شقا! فأنبتنا فيها حبا، وعنبا وقضبا، وزيتونا ونخلا، وحدائق غلبا، وفاكهة وابا! متاعا لكم ولأنعامكم. فبعد أن مات ضمير صاحب تلك الجنتين ظهرت عليه علامات خطيره جدا، فهاهو يخاطب صديقه عندما دخلهما: ما أظن أن تبيد هذه أبدا ... وما أظن الساعة قائمة ... ولإن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا. لقد خلط الحابل بالنابل، فمن شدة غروره ظن أن الجنتين لن تبيدا أبدا، و أنكر الساعة بالكلية، وافترض فرضيات لا سلطان له بها: فلإن كان ما يقول صاحبه حقا وهناك ساعة وبعث، فسوف يحصل في الآخرة على افضل من جنتيه. إن كل كلامه ترهات لا يسندها دليل ولا حجة، فلا يوجد ما يحمي جنتيه ضد أقدار الله، و الساعة قائمة رغما عن أنفه، ولإن بعث بهذا الظن فإن مصيره إلى النار، فمن أين أتى بكل تلك الترهات؟ لقد أعطاه الله درسا قاسيا في نفس مكان فخره وغروره وهو الثراء، يصحح له مفاهيمه المغلوطة: فأحيط بثمره، وأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها، وأصبحت خاوية على عروشها! فعرف أنها ستبيد إذا أراد الله لها ذلك، وأن قوله لن تبيد هذه أبدا، هو نفي لقوة تفوق قدراته وإمكانياته، كانت وما زالت تتصرف وفق إرادة صاحبها، فكيف له أن ينكر ذلك؟ فعندما جاءت تلك القوة لم يكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا؟ ولذا فكان الأولى به أن يقول كما نصحه صاحبه: ما شاء الله! فيسند الفضل إلى معطيه، ويحرر قلبه من عبودية غيره. يقول تعالى: (وَهُوَ ٱلَّذِىٓ أَنشَأَ جَنَّٰتٍۢ مَّعْرُوشَٰتٍۢ وَغَيْرَ مَعْرُوشَٰتٍۢ وَٱلنَّخْلَ وَٱلزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُۥ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَٰبِهٍۢ). إذن هو من خلال سننه وقوانينه، وليس أنت ولا حولك ولاقوتك. وهنا تتداخل مواقف البائسين في كل زمان ومكان، فهذا قارون يقول مثل قوله (إنما أوتيته على علم عندي). وحيث إن الحديث كان عن الشرك، و تعديل الصورة المغلوطة بأنه هو ذلك الشرك التقليدي المنتهي بالسجود للأصنام و تقديسها، فهذه القصة تكشف الصورة الحقيقية للشرك. فهذا صاحبه يقول بعد أن سمع حواره معه: (لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا) فقد اعتبر أن فعل صاحبه هذا هو نوع من الشرك، وقد يظن أحد أن وصفه لصاحبه بالشرك هو ظلم له وتعد عليه؟ لكنه هو بنفسه بعد ان ابتلاه الله قد اعترف بذلك (ويقول يا ليتني لم اشرك بربي أحدا). إذن هو وصاحبه يعرفان أن التصرفات التي صدرت من قبله هي شرك مكتمل الأركان. فما الذي جعلها شركا؟ دعونا نعرف الشرك أولا حتى نستفيد من القيمة الذاتية لهذه الكلمة: إن الشرك أزمة بشرية مستمرة طالما هناك بشر، والقرآن نزل ليعالج هذه المشكلة الأزلية. يعرف ابنُ تيميَّةَ الشرك بقوله: (أصلُ الشِّرْكِ أن تَعدِلَ باللهِ مخلوقاتِه في بعضِ ما يَستَحِقُّه وَحْدَه). فعندما نسقط هذا التعريف على فعل صاحب الجنتين: هو يظن أن الجنتين باقيتان إلى الأبد، وأن الساعة لن تقوم، وأنه على فرضية قيامها سوف يحظى بأفضل من جنتيه. في حين أن الله يؤكد: كل شيء هالك إلا وجهه، و إن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الغيب لا يعلمه إلا الله. وقد قدم هذا الرجل قوله على قول خالقه، فصار مشركا، لأنه عدل نفسه بالله فيما لا يستحقه إلا الله. يقول تعالى: (وَلَا تَأۡكُلُوا۟ مِمَّا لَمۡ یُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَیۡهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسۡقࣱۗ وَإِنَّ ٱلشَّیَـٰطِینَ لَیُوحُونَ إِلَىٰۤ أَوۡلِیَاۤىِٕهِمۡ لِیُجَـٰدِلُوكُمۡۖ وَإِنۡ أَطَعۡتُمُوهُمۡ إِنَّكُمۡ لَمُشۡرِكُونَ). إذن طاعتهم عندما تتناقش معهم وتقول: إن الميتة حرام، مقدما قول الله، فيقولوا ما شاؤا من حجج، فإن أطعتهم فقد قدمت طاعتهم على طاعة الله فصرت مشركا به، والشريك في هذه الحالة هم هؤلاء الأشخاص. إذا كان هذا يصل حد الشرك، فما بالك بمن نسف الآلهة بصورة كاملة واستبدلها بفكر إلحادي بحت، وبمن صارت حياته كلها تخضع للأطروحات البشرية بعيدا عن وحي السماء، في أكله وشربه وحياته، وسائر تصرفاته! فعن أي مستوى من الشرك نتحدث؟ لعل مما يلخص ذلك قوله تعالى (قُلۡ إِنَّ صَلَاتِی وَنُسُكِی وَمَحۡیَایَ وَمَمَاتِی لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ ١٦٢ لَا شَرِیكَ لَهُۥۖ وَبِذَ ٰلِكَ أُمِرۡتُ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُسۡلِمِینَ ١). وعلى هذا فأي جانب من جوانب حياة المرء إما أن يكون لله أو لغيره، فإن لم يكن لله فهو قطعا لغيره، وهو الشرك بعينه. وهنا يظهر بوضوح سبب كثرة حديث القرآن عن الشرك، حيث إنه لا يعني بالضرورة ذلك الشرك التقليدي الذي أشرنا إليه. و هذا يؤكد ان الشرك موجود عند البشر في كل زمان ومكان. وحيث إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك، استحق أن يستأثر بهذه المساحة الشاسعة في صفحات القرآن، حيث هو الخطر المؤكد بالنسبة للبشر، وهو سبب الخسارة الكبرى (ذلك هو الخسران المبين).
- مدخل إلى موضوع المادة المظلمة في الكون
مدخل إلى موضوع المادة المظلمة في الكون أ.د. ناصر بن صالح الزايد 6 ربيع الأول 1442 (23 أكتوبر 2020) السلام عليكم. بحثت عن مقال مكتمل حول المادة المطلمة باللغة العربية أو الإنجليزية، غير أني لم أجد مقالا يشفي الغليل، بالرغم من وجود ألاف المقالات والكتب والنشرات ومقاطع الفيديو، فوجدت أنه من المناسب أن أقوم بكتابة استعراض يسهل قراءته وفهمه حتى من قبل غير المتخصصين. وهنا سوف أقوم فقط برصد هذه الظاهرة التي لاحظها بعض العلماء على مر الـ 100 سنة الماضية، ولماذا وصلوا إلى فرضية وجود شيء (ما) يفوق في مجمل كتلته95 % من مجمل الكون المرصود للبشر وينقسم إلى قسمين: تقريبا 27% مادة كتلية مظلمة (غير قابلة للرصد التقليدي) + 68% يعتبر أشد غموضا يطلق عليه الطاقة المظلمة (طاقة غير قابلة للرصد بالطرق التقليدية). أي أن كل ما نشاهده من نجوم وأفلاك ومجرات وتجمعات نجمية ضخمة لا يمثل إلا 4% من الكون الحقيقي! هذه المادة المظلمة تمسك أجزاء الكون مع بعضها بقوة غامضة، بحيث لو تخيلنا أنها سحبت من داخل المجرة، فإن كواكب ونجوم المجرة تنفلت شذر مذر إلى غيرما اتجاه محدد. هناك سباق محموم حاليا بين الدول للكشف عن هذه المادة الغامضة، فيجري البحث عنها في معجل سيرن CERN Accelerator ، وهناك معامل تحت الأرض لمحاولة فك لغزها، كما أن هناك معامل محمولة على ظهور الأقمار الصناعية، لنفس الغرض. في الصين على سبيل المثال وفي العام 2010 قامت مجموعة بحثية في جامعة سنقوا بإنشاء معمل يبلغ حجمه 1400 متر مكعب على عمق كيلومترين ونصف تحت جبال سيكوان، لغرض البحث عن أية إشارة حول هذه المادة، وكونه تحت الأرض من أجل العزل التام عن المؤثرات الأخرى. على النقيض من ذلك، وفي عام 2011، قامت ناسا بتسليم مجس لدراسة المادة المظلمة يبلغ وزنه ستة أطنان إلى محطة الفضاء الدولية على ارتفاع 350 كيلومتر عن سطح الأرض، وقد تم حمله على مركبة إنديفور الفضائية. قد تقود نتائج هذه المعامل، وهناك معامل أخرى غيرها، إلى الكشف عن أكبر تحد يواجهه العلم الحديث، وربما تقود أيضا إلى تغيير جذري في كثير من النظريات المطروحة حاليا حول أصل وطبيعة ونشأة الكون. دعونا نستعرض بعض الأدلة التي لاحظها العلماء حول المادة المظلمة، ونضع أنفسنا – مثلهم – أمام النتائج التي تحتاج إلى تفسير، فربما نقتنع بتفسيرهم وربما يكون لدى أحدنا وجهة نظر مختلفة، المهم أن نتشارك في البيانات التي تحتاج إلى شرح وفهم. الدليل الأول: من أوائل الأدلة حول المادة المظلمة جاء في العام 1922 م عندما طرح العالم الهولندي جاكوبس كابتين Jacobus Kapteyn نموذجه للكون والذي قال فيه إن النجوم في الكون ليست موزعة كيفما اتفق، وإنما هي موزعة ضمن نماذج متناسقة (أي مثلا تتوقع وجود أجرام سماوية بحجم ما على فواصل فلكية ثابتة من بعضها). استفاد هذا العالم من هذا النموذج في تخمين كتل المجرات والتجمعات النجمية، ثم قارنها بما هو مرصود فعليا من هذه النجوم والمجرات، ليستنتج أنه توجد مادة غير مرئية تمثل كتلا أكبر بكثير مما هو مرصود بالفعل [1]. الدليل الثاني: جاء هذا الدليل من قبل عالم الفلك الهولندي الشهير (جان هندرك أورت) Jan Hendrik Oort وذلك ضمن ملاحظاته أثناء رصده لمجرة درب التبانة في السنوات التي انتهت بالعام 1932 م [2]. تقع دراسات هذا العالم في مجال دراسات وتحليل ديناميكية المجرات galactic dynamics. كان أورت يقيس سرعات النجوم المشكلة للمجرة نسبة إلى قرص المجرة (للمعلومية: المجرة من النوع اللولبي شكلا، وتمتد بصورة قرص قطره في حدود 10 كيلوبارسك، وسمكه 4 كيلوبارسك، حيث البارسك الواحد يمثل مسافة فلكية تقدر بـ 3.12x10¹⁶ km). كانت دراسات هذا العالم مركزة على قياس سرعات النجوم نسبة لذلك القرص وباتجاه متعامد عليه. ما سبب له الدهشة أنه وجد أن تلك السرعات تفوق ما يطلق عليه علميا بسرعة الإفلات (سرعة الإفلات هي السرعة التي لو رميت بها جسما إلى أعلى فإنه يتمكن من التخلص من جاذبية الأرض والخروج من مجالها إلى غير رجعه). وعليه فقد كانت تلك السرعات التي تتحرك بها النجوم المشار إليها بالنسبة لقرص المجرة كافية لمغادرتها للمجرة بشكل نهائي. غير أن هذا لا يحصل؟ وكان بذلك مثار تساؤل؟ كيف تتحرك نجوم متأثرة بجاذبية متوسط كتلة المجرة بسرعات تفوق سرعة الإفلات من تلك الجاذبية ومع ذلك هي لا تفلت؟ فتوصل إلى فرضية وجود مادة مجهولة ضمن وحول مادة المجرة ذات جاذبية هائلة وغير معلومة، تمنع تلك النجوم من الإفلات من قبضة الجاذبية. أطلق أورت عليها المادة المظلمة. الدليل الثالث: تم رصد مؤشرات على ما قيل إنه مادة مظلمة، وجاء للمرة الثالثه وهذه المرة من قبل عالم الفلك السويسري (فرتز زويكي) Fritz Zwicky [3] وهو أول من استخدم (مبرهنة الطاقة الحركية للنظام متعدد الأجسام: مبرهنة فيريال) virial theorem للتدليل على وجود المادة السوداء أو المظلمة وذلك في العام 1933م. المبرهنة المذكورة فكرتها أنها تعطي معادلة عامة تصلح لتقدير الكتلة العامة المشكلة لنظام مكون من عدة أجسام (مثلا مجرة) بشرط أن تكون تلك الأجسام مترابطة فيما بينها من خلال قوى الجذب الكوني لتكون نظاما واحدا وأن يكون ذلك النظام في وضع اتزان (استقرار على مدى زمن طويل)، وذلك من خلال حساب المتوسط الزمني للطاقة الحركية الكلية لهذا النظام وربطها بطاقة الوضع الكلية للنظام. يمكن أن نلخص تلك المبرهنة بالمعادلة الرياضية: حيث تمثل الكتلة الكلية للنظام (مثلا الكتلة التقديرية للمجرة بأكملها وهي المطلوب حسابها)، نصف قطر النظام (مثلا نصف قطر المجرة)، في حين أن الكمية تمثل مربع متوسط سرعة الأجسام المكونة للنظام (مثلا متوسط سرعات النجوم في المجرة)، وأخيرا فالكمية G هي ثابت الجذب الكوني. إن شرط كون النظام المشكل للمجرات أو التجمعات النجمية الضخمة واقع ضمن منظومة واحدة تجمعها قوى الجاذبية الكونية (مثل نظام المجموعة الشمسية) هو أمر قد تم إقراره قبل مجيء زويكي بفترة طويلة، منذ أيام العالم الألماني-البريطاني ويليام هرشيل William Herschel (1780 م) وما زالت الأبحاث تؤكده مرة بعد الأخرى (راجع بحثنا بعنوان: جدار مجري ضخم على مرمى 500 سنة ضوئية فقط من الأرض). ولذلك يصح القول إن مجرة درب التبانة هي في النهاية كتلة واحدة مشكلة من عدد ضخم من النجوم والكواكب والغبار الكوني، مجتمعة تحت تأثير قوى التجاذب الكوني Gravitationally Bound System وكذلك الحال مع جميع المجرات، بل حتى مع تجمعات المجرات. قام زويكي بتطبيق هذه الفرضية في دراسته لتجمعين نجميين شهيرين الأول: عنقود مجرات كوما (الذؤابة) العظيم Coma constellation وهو عنقود يتكون من مجرات كثيرة (حوالي 1000 مجرة!) ويقع بصورة كروية قطره تقريبا 20 مليون سنة ضوئية (حوالي 6 كيلوبارسك) ويقع بالقرب منا في حدود 300 مليون سنة ضوئية (حوالي 90 مليون بارسك) وليس بعيدا عنه يقع عنقود مجرات العذراء العظيم Virgo constellation وهو التجمع الثاني (أكثر من 700 مجرة) الذي قام بدراسته ذلك العالم. توصل زويكي إلى تقدير كتلة هذين التجمعين العملاقين للنجوم بهذه الطريقة، ثم قام بتقدير الكتل بطريقة ثانية للمقارنة وهي استخدام علاقة الكتلة باللمعان mass-luminosity relation والتي يعبر عنها رياضيا كما يلي: حيث تمثل لمعان الشمس، و تمثل كتلة الشمس، والكميات الأخرى هي لمعان وكتلة الجسم الكوني اللامع الآخر على الترتيب. الثابت a هو رقم يستخدم بحسب حجم التجمع النجمي ولكن يقع في حدود 3.5 . لاحظ زويكي وجود فارق كبير جدا بين النتيجتين دفعه للافتراض بوجود مادة كتلية مخفية (مادة مظلمة) تقع في ثنايا وحول التجمعات النجمية المشار إليها. ركز في هذا الاستنتاج فهو مهم للغاية لأنه يقر بتأثير المادة المظلمة في الحسابات المعروفة. أقصد أن حساب الكتلة عن طريق اللمعان يفترض أنه أعطى نتيجة أدق من تلك المحسوبة عن الطريق الآخر. الدليل الرابع: هذا الدليل مختص بالمجرات التي تسبح ضمن غاز يشع أشعة أكس وتسمى (مجرات التألق السيني) x-ray bright galaxies . هذه المجرات يحيط بها غاز لامع ولكن بأشعة غير مرئية هي أشعة إكس (السينية) وهو يشع بسبب تهييجه حراريا بواسطة حرارة التجمع النجمي نفسه أو قل حرارة الأجسام المشكلة له (يشترط لهذا التجمع أن يحترم الشروط التي ذكرتها أعلاه في الدليل الثالث). هناك تخصص ضمن علوم الفلك يسمى: علم الفلك بالأشعة السينية، يدرس الإشعاع المذكور ويتخصص فيه، ولذلك يضع أجهزته عادة خارج تاثير طبقة الهواء المحيط بالأرض، أي محمولا فوق الأقمار الصناعية أو البالونات على الأقل. نتائج مراقبة هذا النوع من التجمعات وتحليل بياناتها، أعطى أرقاما لا يكفي فقط اعتماد كتلة التجمعات مضافا لها كتلة الغازات المذكورة، لتفسيرها، بل لابد من اعتبار أن هناك كتلة أخرى غير مرئية تفوق الكتلة المرئية بشكل كبير حتى يمكن فهم النتائج. الدليل الخامس: عندما تمت دراسة حركة الأجرام المنتمية للمجرات اللولبية، مثل مجرتنا، مجرة درب التبانة، وعلى وجه التحديد تمت دراسة حركة الأجرام في أفلاكها حول مراكز المجرات. وحيث إن من طبيعة تلك المجرات أن كتلتها تتركز في المناطق القريبة من المركز (كثافة الأجرام المشكلة لها تتركز بشكل أكبر حول المركز)، وبالتالي وباستخدام قوانين كبلر الشهيرة لدوران الأجرام في افلاكها حول الكتل، والتي تنص على أن سرعات تلك الأجرام في أفلاكها تكون اقل كلما ابتعدت عن مركز الجاذبية (الكتلة) (على سبيل المثال الأرض عندما تكون في الحضيض تكون أبطأ منها عندما تكون في الأوج أي بالقرب من الشمس). على هذا فإن العلماء يتوقعون أن تتحرك الأجرام المنتمية للمجرات المذكورة بحيث تتباطئ عندما تبتعد عن المركز (تكون في أطراف المجرة) ولكن هذا لا يحدث، بل تحافظ تلك الأجرام على نفس سرعتها V(r) بغض النظر عن موقعها من المجرة. إن هذا يصادم قوانين كبلر، ويحتم فرضية وجود كتلة هائلة مخفية، وربما هالة كتلية مخفية حول المجرة بحيث يختفي أثر التباعد عن المركز. ظهر ذلك على سبيل المثال في دراسات العالم الأسترالي كينيث فريمان Kenneth Freeman في العام 1970 م حيث جزم في أعقابها بوجود مادة غير مرئية لا تقل عن المادة المرئية في أقل الأحوال [4]. تأكد ذلك لاحقا بدراسات راديوية قام بها العالمان روقستاد و شوستاك في عام 1972م ومن ثم العالمان روبرتس و روتس في العام 1973 م حيث أكد هؤلاء العلماء عن طريق رصد راديوي للمجرات، بأن عددا من تلك المجرات تعكس مدارات مستوية (مضادة لقوانين كبلر) مما يشير إلى مادة غير مرئية ذات ثقل ملحوظ ضمن تلك المجرات [5]. الدليل السادس: رصد المادة المظلمة جاء أيضا باستخدام نظرية أينشتاين العامة في موضوع انحناء نسيج الزمان-المكان (الزمكان) بالقرب من الكتل ذات الجاذبية العالية. من نتائج تلك النظرية أنه عندما يمر شعاع كهرومغناطيسي (ضوء على سبيل المثال) قادم من بعيد بالقرب من كتلة ذات جاذبية ضخمة، أو يمر من خلالها، فإنه يعاني من انحناء الزمكان، يسمى هذا الأثر أيضا (أثر عدسة الجاذبية) gravitational lensing، وذلك أن العدسة من شأنها أنها تؤدي إلى انحناء الضوء فيتجمع في البؤرة، والجاذبية المرافقة للكتل الضخمة تؤدي إلى أثر مشابه. تم رصد الموجات الكهرومغناطيسية القادمة من وراء المجرات، والتي تمر طبعا من خلال المجرات وصولا إلى المراقب على سطح الأرض لأكثر من مرة، منها على سبيل المثال من خلال القمر الصناعي الأوروبي Planck [6] من خلال رصده الدقيق لأشعة الخلفية الكونية خلال الأعوام 2009 وحتى 2013، حيث لوحظ أن الانحناء الحاصل في الأشعة القادمة من وراء المجرات يفوق ما هو متوقع من مجرد كتل المجرات المرصودة أو المشاهدة، مما حتم فرضية وجود مادة ذات كتلة تفوق الكتلة الظاهرية. وعلى هذا، فهذه ستة أدلة مختلفة في الطريقة والأسلوب، ولكنها تعتمد أساسا تأثير الجاذبية المادية على الأجسام، وهي متظافرة في تأييد فكرة المادة المظلمة، وأنها تفوق كثيرا المادة المرئية بالنسبة لنا. إن حصر تأثير المادة المظلمة في جانب الجاذبية فقط يثير بعض علامات الاستفهام، إذ كيف يكون لهذه المادة هذا الأثر في حين تغيب جميع الصفات الأخرى المعروفة للمادة؟ باختصار يقول صاحب كتاب (Behind the Scenes of the Universe): بغض النظر عن الجسم السماوي الذي نقوم برصده، وبغض النظر عن طريقة الرصد، فإننا ننتهي دائما بالحصول على كتلة أكبر كثيرا من الكتلة التي نتوقعها. باختصار: المادة المظلمة تتسم بما يلي: 1. غير مشعة، لا يخرج منها إشعاع معروف 2. غير متفاعلة مع أي من الجسيمات الأولية، كالفوتونات أو الإلكترونات أو غيرها 3. غير متفاعله مع المجال المغناطيسي 4. يتوقع أنها مكونة من أجسام غير مشحونة (متعادلة) 5. لم يتم حتى الآن الكشف عنها في المعامل 6. تفاعلها الوحيد المرصود مع المادة المرئية هو من خلال قوى الجذب الكوني على المستوى الكبير (مستوى المجرات مثلا) 7. مختلفة تماما عن كل ما نعرفه حاليا في جميع النواحي 8. يعتقد بأنها هي المسؤولة عن تماسك أجزاء الكون بعضها مع بعض 9. كثافتها ثابتة ولا تتغير بسبب التمدد الكوني!! إذن هذه هي المادة المظلمة (السوداء) غير المرئية في الكون. صار من شبه المؤكد أنها تقع ضمن المجرات، وحولها، ولكن من غير الواضح هل هي متوزعة بشكل متساو أم أنها تختلف قربا وبعدا من مركز المجرة. وإذا كانت المادة المرصودة (التي بين أيدينا) مبنية من المكونات الأساسية مثل: الكواركات + الليبتونات + البوزونات الناقلة للقوى الرئيسية + بوزون هجز، فإنه من غير المعروف حتى الآن مم تتكون المادة المظلمة علاوة على الطاقة المظلمة. ولكن من المؤكد أنه – وبافتراض قبول فكرة المادة المظلمة – أنها موجودة الآن من حولنا وخلال فضائنا الذي نتحرك فيه، ونحن لا نستطيع حتى الإحساس بها. تخيل أن جميع أجرام الكون تسبح في الماء؟ استبعد الماء وضع مكانه المادة المظلمة. هل تتفقون معي بأن: المخلوقات التي تخلق من تلك المادة غير المرئية ستكون غير مرئية؟؟ لن أذهب أبعد من ذلك!! وتبقى الأسئلة مطروحة: هل يا ترى فعلا هناك مادة مظلمة غير مرئية؟ أم أن المسألة لا تعدو أن هناك خطأ ما يتكرر في جميع حساباتنا، وبالتالي يتوجب إعادة النظر فيها بحيث يتم إضافة تصحيح من نوع أو آخر؟ وماذا عن القوى المظلمة؟ هل توجد قوى غير مرئية؟ ولماذا لا تتمدد المادة المظلمة مع الكون (إن كان فعلا يتمدد) فالطبيعي أنك عندما تمد مادة ما في حجم أكبر أن كثافتها تقل، غير أن المادة المظلمة تحافظ على نفس الكثافة؟ وهي كما ترى ألغاز صعبة الحل، وتمثل تحديا غير مسبوق أمام العلماء. [1]. J. C. Kapteyn, “First attempt at a theory of the arrangement and motion of the sidereal system”, Astrophysical Journal 55 (1922) 302. [2]. Ken Freeman, Geoff McNamara (2006). In Search of Dark Matter. Springer. ISBN 978-0-387-27616-8. "the story of the emergence of the dark matter problem, from the initial 'discovery' of dark matter by Jan Oort" [3]. F. Zwicky, “Die Rotverschiebung von extragalaktischen Nebeln”, Helvetica Physica Acta 6 (1933) 110–127; English translation in General Relativity and Gravitation 41 (2009) 207–224. [4]. K. C. Freeman, “On the disks of spiral and 50 galaxies”, Astrophysical Journal 160 (1970) 811. [5] Behind the Scenes of the Universe from the Higgs to Dark Matter, Gianfranco Bertone, 2013 [6]. https://sci.esa.int/web/planck
- مخلص بأبرز الأخبار العلمية للعام 2022
هذا ملخص سريع بأبرز الأخبار العلمية للعام الميلادي الذي ينتهي اليوم 31 ديسمبر. وهي غير مرتبة بأية طريقة، بحسب ما تيسر: اولا: فريق من العلماء والمهندسين ينجحون في إنتاج بطاريات قابلة للشحن خلال 11 دقيقة بطاقة 265 Wh/kg (نفس بطاريات تسلا) ويمكن إعادة شحنها من 900 إلى 2000 مرة. نوع البطاريات: ليثيوم-أيون [1] ثانيا: فريق من العلماء يحصلون على قيمة لكتلة بوزون W الرئيسي في النموذج الأساسي مختلفة قليلا عن ما توقعه النموذج. ومع احتمالية وجود أخطاء تجريبية إلا أن الاكتشاف قد يسبب حرجا قويا للنموذج وبالتالي لجميع النظريات العلمية المرتبطة به. يشار إلى أن النتائج تم أخذها من بيانات سابقة لمعمل تيفاترون الذي تم إغلاقه في 2011.[2] ثالثا: علماء ألمان يحققون رقما قياسيا جديدا في كفاءة الخلايا الشمسية المدمجة من السيلكون والبيرفيسكيت حيث وصلت 32.5% . الرقم السابق كان 29.8% من نفس الفريق عام 2021 تلاه كفاءة مقدارها 31.3% من قبل فريق سويسري في نفس العام.[3] رابعا: البدء في بناء أكبر تلسكوب راديوي عرفه البشر مساحته 1كم مربع وسوف ينتهي في 2028 يهدف أساسا إلى فحص أطروحات أينشتاين حول الكون. سوف يكلف 10 مليار دولار. يعمل التلسكوب في المدى الترددي 50 ميجاهرتز إلى 25 جيجاهيرتز مما سيمكنه من رصد أضعف الإشارات القادمة من اقصى الكون [4] خامسا: #المصادم_الهادروني_العملاق LHC يرصد 3 جسيمات أولية غريبة لأول مرة: الأول يسمى "بنتاكوارك" ويتكون من 4 كواركات + كوارك مضاد مرتبطة مع بعضها. وهو صناعة بشرية لا يتوفر في الطبيعة. إضافة إلى جسيمين يسميان "تيتراكوارك" رمز لهما المصادم بالرموز: cs̄ud̄ و cs̄ūd ـ [5] سادسا: ناسا تنجح في إطلاق أرتميس 1 وهو نظام إطلاق فضائي تمكن من إطلاق كبسولة أوراين والتي دارت حول القمر عدة مرات ثم عادت إلى الأرض بعد حوالي 25 يوما. نظام الصاروخ مع الكبسولة يعد الأكبر في التاريخ، وهو يجرب إمكانية إرسال كبسولة مأهولة إلى القمر لاحقا.[6] سابعا: علماء أوروبيون وغيرهم ينجحون في مضاعفة طاقة الاندماج النووي في معمل جيت JET في بريطانيا عن طريق التوكوماك مقارنة بنفس الطاقة التي أنتجها نفس المعمل عام 1997. في 1997 وصل معامل التحول Q إلى 0.33 في حين بلغ هذا العام 0.67 ، يلزم Q أكبر من 1 حتى يستمر التوكوماك بالعمل دون توقف أي مثل الشمس! [7] ثامنا: علماء أمريكيون ينجحون لأول مرة من إحداث اندماج نووي عن طريق التسخين بأشعة الليزر أحدث طاقة تفوق الطاقة المسلطة لأول مرة، حيث كانت جميع محاولات استخدام التوكوماك السابقة غير قادرة على الوصول إلى هذا المستوى. [8] [1] https://www.nature.com/articles/s41586-022-05281-0.epdf [2] https://www.newscientist.com/article/2315418-particle-physics-could-be-rewritten-after-shock-w-boson-measurement/ [3] https://www.sciencedaily.com/releases/2022/12/221219164845.htm [4] https://www.bbc.com/news/science-environment-63836496 [5] https://home.cern/news/news/physics/lhcb-discovers-three-new-exotic-particles [6] https://www.nasa.gov/specials/artemis-i/ [7] https://theconversation.com/nuclear-fusion-how-excited-should-we-be-177161 [8] https://www.bbc.com/news/science-environment-63950962
- ماذا لو كان الليل والنهار سرمدا إلى يوم القيامة؟
ماذا لو كان الليل والنهار سرمدا إلى يوم القيامة؟ تأملت في آيتين في القرآن الكريم وهما قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ ۖ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ. حقيقة أنه يوجد أماكن يكون فيها الليل طويلا وكذلك النهار وهي ليست ببعيدة عنا، فكوكب الزهرة على سبيل المثال يظل النهار أو الليل فيه ما يقارب 243 يوما أرضيا. وأما بالنسبة للقمر الذي يخطط البعض لإمكانية العيش على ظهره، فإن يومه الكامل يصل تقريبا إلى 29 يوما أرضيا، نصفها ليل ونصفها نهار. ولكن لو تصورنا أن الأرض هي شمس القمر، وحيث إن القمر يتبع نظام المدار المغلق مع الأرض (أي دورته حول نفسه تساوي بالضبط دورته حول الأرض من الناحية الزمنية) أي أن أحد نصفيه يواجه الأرض بصورة دائمه في حين أن نصفه الآخر مظلم بالنسبة للأرض. فهذا معناه أن ذلك الوجه سيظل الليل فيه سرمديا وكذلك النهار في الوجه المقابل. إذن من حيث المبدأ، يمكن للأرض أيضا أن تتبع المدار المغلق حول الشمس فيظل نصفها مشمسا أبد الدهر والآخر مظلما أبد الدهر. فالله سبحانه وتعالى يعلم أن القمر لن يتمكن من تغيير دورانه بسبب انضباط قوانين الكون التي هو قدرها، فسوف يظل هكذا إلى (يوم القيامة) ولو كانت الأرض مثله بالنسبة للشمس، لظلت على هذا الوضع أيضا إلى (يوم القيامة). فهنا يمن الله على عباده أنه جعل الأرض تدور بسرعة محددة تعطي يوما طوله 24 ساعة فقط ونصفه تقريبا نهار والباقي ليل. ليست المشكلة محدودة في النور والظلمة، بل أيضا في درجات الحرارة، فلو تصورنا نصف الأرض مظلما بصورة دائمة، لاستحالت المعيشة فيه بسبب البرودة الشديدة جدا، التي يتجمد بسببها كل معلم من معالم الحياة بما في ذلك المحيطات والأنهار. والعكس مع النصف المشمس حيث ترتفع الحرارة فيه بصورة شديدة لا يمكن أن يتحملها الإنسان، وسوف تؤدي إلى تحول جميع مصادر المياه إلى صورة بخارية غير مفيدة. هنا ندرك أن المنة عظيمة بكل المقاييس، فالحياة التي نعرفها لم تكن لتكون لولا هذا الدوران ولولا الليل والنهار إضافة إلى المسافة المناسبة بين الأرض والشمس. ولكن العظيم حقا وصف الله سبحانه وتعالى للحالة بأنها سوف تستمر إلى يوم القيامة لو كانت موجودة من الأساس، فلا شيء يمكن أن يؤثر عليها ليغير من وضعها، أما في يوم القيامة فسوف تتغير جميع المعادلات رأسا على عقب وتظهر أمور غير معروفة للبشر. أعلم أن هناك دراسات تتحدث عن تباطؤ دوران الأرض ولكن هذا التباطؤ (بطيئ جدا) وقد يأتي يوم القيامة قبل أن تتوقف الأرض فعليا. في أثناء وجودي في الخارج حصل كسوف للشمس واجتمعنا لصلاة الكسوف، وكنت إماما للصلاة في وقتها فقرأت آيات من سورة القصص حيث الآيتان المذكورتان أعلاه. وبعد السلام سألني أحد الحضور من جنسية غير عربية: هل هذه الآيات فعلا في القرآن؟ قلت نعم. فتعجب بشدة لتشابهها مع ما كان يجري وقتها. أعجبني مقطع جميل للدكتور محمد باسل الطائي يشرح فيه آية لها دلالة مشابهه وهي قوله تعالى (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا، ثم جعلنا الشمس عليه دليلا). وهو موجود في المقطع التالي: وهذا فيديو يوضح ماذا يمكن أن يحصل للأرض لو كان مدارها مغلقا مع الشمس:
- محاولة محاكاة نشوء الكون عن طريق سوبر كومبيوتر
محاولة محاكاة نشوء الكون عن طريق سوبر كومبيوتر في محاكاة حديثة لنشأة الكون – بحسب المؤلفين – بينوا أن الكون في لحظاته الأولى – ضمن الانفجار العظيم – قد تحول من سحابة غازية ناعمه بارده إلى تجمعات مجرية ونجمية متفرقة كما هو مشاهد اليوم. يعتقد المؤلفون بأن الكون عندما كان عمره 10 مليون سنة فقط بعد الانفجار العظيم (أي قبل 13.8 مليار سنة)، كان هناك كميات هائلة من الغازات الحارة، قد برد لاحقا إلى سحابة ضخمة باردة نسبيا ومعتمة. تلا ذلك حصول تموجات في الغازات بحيث تجمعت وتشكلت المجرات والمجاميع النجمية. وكان هناك كميات هائلة من الإشعاعات تنتشر في سائر أرجاء الكون. يقوم هذا المحاكي المسمى CoDaIII بأخذ هذه المعطيات في الحسبان إضافة إلى توزيع المادة خلال الكون. تبين المحاكاة كيف تمت عمليات بناء وتشكيل الكون كما نراه الآن. المرجع من الأركايف: https://arxiv.org/pdf/2202.05869
- العمل على نظام جديد للمواقع (سوبر جي بي إس) لا يحتاج للاقمار الصناعية
لسبب وجود مشاكل مع النظام العالمي الحالي لتحديد المواقع GPS والذي يعتمد أساسا على الأقمار الصناعية ومنها عدم دقته حيث لا تقل عن بضعة أمتار قطرية للمكان المستهدف خاصة في المناطق المكتظة، كما أن الأقمار قد لا تتوفر أحيانا مثلا في الأنفاق أو بين البنايات العالية، إضافة إلى إمكانية تهكير هذا النظام أو النظام الذي أطلقته الصين تحت مسمى: بيدو فقد قام علماء من جامعة ديلفت في هولندا بالعمل على مشروع بديل لهذه الأنظمة يمكنه التمييز بين موقعين لا يفصلهما إلا 10 سنتيمترات. النظام الجديد يعتمد على نفس أبراج الجوال سموه: سوبر جي بي إس SuperGPS يتميز بتطابقه مع بروتوكولات الجيل الرابع والخامس للهواتف الجوالة. كونه يعتمد على نفس خدمات الجوال سوف يوفر المال من جهة ويدعم شركات الجوال من جهة ثانية. تمت تجربة هذا النظام من قبل الباحثين أنفسهم على مساحة 660 مترا مربعا وباستخدام 6 مصادر للإشارة فكانت النتيجة دقة غير مسبوقة تصل إلى 7.4 إلى 10.2 سم فقط. بحسب الباحثين يمكن إيصال الدقة إلى 2.2 سم بعمل بعض التطوير للاستفادة من التغيرات في طور الموجات الرادوية المستخدمة. على هذا الأساس ربما يبحث الناس عن مفاتيحهم أو جوالاتهم الضائعة في بيوتهم عن طريق النظام! المرجع في نيتشر: https://www.nature.com/articles/s41586-022-05315-7
- الترابط الكمي في الإنترنت الكمية Quantum Entanglement
الترابط الكمي في الإنترنت الكمية Quantum Entanglement أ.د. ناصر بن صالح الزايد nalzayed@ksu.edu.sa هناك توجه واضح في الفترة الأخيرة إلى محاولة اختبار إمكانية استخدام مبدأ الترابط الكمي Quantum Entanglement [1] في الإنترنت الكمية خاصة في مسألة التشفير Encryption ، يتضح هذا من التجربة التي قام بها كل من الصين والنمسا في العام 2018 باستخدام القمر الصناعي (الساتل)، وتم تكرارها بصورة أخرى لاحقا في نفس العام من قبل فريق آخر، وأخيرا وفي بداية العام 2021 تم تكرارها بطريقة مختلفة باستخدام الدرونات كما سوف يتم توضيح كل ذلك لاحقا. إننا لن نفهم تلك التجارب إلا بفهم مبدأ الترابط الكمي أولا. وبالمناسبة فقد وجدت بعض المواقع العربية تسميه: التشابك الكمي، وفي رأيي أن هذه الترجمة غير موفقة، لأن التشابك بالعربية له دلالات مختلفة. وسوف يتضح ذلك في ثنايا هذا الموضوع. كعادتي سوف أعتبر ان معظم القراء لديهم فقط القدرة المنطقية والخلفية المبدئية لفهم الموضوع. تصور أنك طلبت من المطعم وجبتين واحدة دجاج والأخرى لحم. فوضعهما في كرتونين متشابهين تماما. عندما وصلت البيت، لم تعلم أيهما الدجاج وأيهما اللحم؟ ولكن عندما فتحت أحدهما فوجدته دجاجا، تأكد لك أن الكرتون المتبقي هو لحم. تخيل أن الكرتون الثاني لم تأخذه معك إلى المنزل بل أعطيته، أو سلمه نفس المطعم، بشكل عفوي إلى شخص آخر في منزل آخر، فأنت الآن واثق بنسبة 100% أن ذلك الشخص الآخر قد حصل على وجبة لحم. هذا ببساطة هو الترابط بين هذين الزوجين. عندما نطبق هذه الصورة على الجسيمات الكمية (إلكترونات أو فوتونات مثلا) فيصبح لدينا: مبدأ الترابط الكمي. للتوضيح أكثر: تصور أن لدينا جهازا يمكنه إطلاق إلكترونين في الوقت نفسه، كل الكرتون في اتجاه مختلف، بحيث يكون لدى الإلكترون الأول لف مغزلي إلى أعلى ↑ والثاني إلى أسفل ↓ . عندما يصل الإلكترون الأول إلى هدفه الذي يقوم بقياس لفه فيجده إلى أعلى فيكون واثقا عند ذلك أن الإلكترون الآخر مهما ذهب بعيدا سيكون لفه إلى أسفل، أي وصلته معلومة مؤكد فوريا بغض النظر عن المسافة بينهما. يعبر العلماء عن هذا الوضع بأن الإلكترونين لديهما دالة موجية واحدة مهما تباعدا عن بعضهما مكانيا. إذن نحن نبحث عن سمة كمية معينة يحافظ عليها الجسيم، ويمكن أن تكون لها حالتان، أعلى أو أسفل، رأسي أو أفقي، وهكذا. بالنسبة للفوتونات، هي عبارة عن موجات، والموجة لها سمة الاستقطاب، والاستقطاب يمكن أن يكون رأسيا، أو أفقيا، أو غير ذلك. إذن في تجربة الإلكترونات السابقة، يمكننا استبدال الإلكترونين بفوتونين لهما استقطابية مختلفة رأسية أو أفقية. وهذه هي فكرة الترابط الكمي المستخدمة في الحوسبة الكمية بالضبط في ناحية التشفير كما سوف نحاول توضيحه من خلال حديثنا عن التجارب العلمية التي تمت في هذا الخصوص. أيضا يلزمنا أن نعرف قبل الدخول في الموضوع ما يسمى بلغة الحواسيب: البت Bit[2] وهي طريقة تخزين وتمثيل البيانات. باختصار يستخدم الصفر ورقم 1 لهذا الغرض. مثلا: 1001 هي عبارة عن العدد 9. بلغة الحواسيب التقليدية 1 تعني قيمة الفولتية 5، و 0 تعني فولتية 0. في الحوسبة الكمية لا تختلف الصورة إلا باستبدال الفولتية بصفة أخرى، غالبا هي صفة الإلكترون وخاصة في لفه المغزلي: مثلا لف إلى أعلى يقابل 1 وإلى أسفل يقابل 0. البت عندما تكون على أسس كمية تسمى كيوبت qubit. ضع في بالك فيما يلي أن بت أو كيوبت تعني (معلومة). وأخيرا يلزمنا أن نعلم ما المقصود بالتشفير [3]؟ إذا أرسلت شخصا معه حقيبة تفتح بالأرقام، إلى شخص آخر، فإنه لن يتمكن من فتحها إلا بمعرفة الرقم. هذا هو التشفير بالضبط. هل الرقم يسهل تخمينه؟ إذن التشفير ليس بالقوة المطلوبة؟ معرفة الرقم تعني أن الشخص الآخر لديه مفتاح التشفير، محاولة فتح الشنطة بالتخمين يسمى (التهكير). هناك أنواع مختلفة من التشفير، يتميز بعضها بالقوة أكثر من الآخر. عندما تقوم بتركيب وثيقة SSL على موقعك فأنت تشفر بيانات الموقع قبل انتقالها للمتصفح بحيث لا يعرفها إلا من لديه المفتاح (عن طريق المتصفح). خطوات عمل مفتاح التشفير الكمي (مختلف جوهريا عن التشفير بالترابط الكمي): أولا: يتم تركيب فلتر لدى المصدر بحيث يمكنه إطلاق الفوتونات عند استقطابات مختلفة بشكل عشوائي، ولكن مرصود. ثانيا: يتم ترميز الفوتونات بحيث أن الفوتون المستقطب رأسيا يقابل 1، وافقيا يقابل 0، عند 45 درجة يمين أيضا 1، و 45 درجة يسار أيضا 0 وهكذا. ثالثا: يتم إرسال عدد من تلك الفوتونات عن طريق الألياف البصرية أو الجو كما سنرى. رابعا: يقوم المستقبل بتلقي تلك الفوتونات ويقيس حالة الاستقطاب لديها، ويسجلها بالتتابع كأرقام 0 أو 1. خامسا: يتشكل لدى المستقبل معلومة متكاملة عن جميع الفوتونات المرسلة، أي تسلسل البتات الناتجة عن قراءة استقطابها. سادسا: يقوم بإرسال النتيجة فوريا إلى المرسل الذي يفحص تلك المعلومة، فإن تطابقت مع ما لديه، أرسل إلى المستقبل بالمصادقة على فتح الملف. هذه هي طريقة التشفير الكمي، ليس لها من اسمها نصيب سوى أن الفوتونات هي جسيمات كمية، تحترم الحالة الموجية للجسيمات الكمية. في البحث الذي نحن بصدده، ندرس التشفير بالترابط الكمي وهو أرقى كثيرا مما سبق وأكثر عمقا من الناحية الكمية، فكيف يتم؟ أولا: يتم تركيب نظام مستقل يمكنه إرسال فوتونات بصورة أزواج مرتبطة كميا كما تم شرحه، بحيث يتجه أحدها إلى مصدر المعلومة والثاني إلى مستقبل المعلومة. يجوز أن يكون هذا النظام لدى نفس المرسل، ويمكن أن يكون على سطح الأرض أو مركبا على درون أو على قمر صناعي. ثانيا: يتم تركيب فلتر لدى كل من المصدر والمستقبل بحيث يمكن قراءة الاستقطابات لتلك الفوتونات وتحويلها إلى أرقام 0 و 1 (بتات) ثالثا: مبدأ الترابط الكمي يحتم أن الأرقام التي سوف تتجمع لدى المستقبل هي قطعا عكس الأرقام التي سوف تتجمع لدى المرسل، ولا داع لإرسال رسالة للتأكد كما في (سادسا) أعلاه لأن المرسل قد وصلته المعلومة من النظام المستقل في نفس الوقت. رابعا: طالما تحقق الشرط في ثالثا، فإن المستقبل سيتمكن فوريا من فتح الملف والحصول على الحق في فتح الوثيقة أو قراءة البيانات. إن موثوقية معلوماتنا الكمية حول الترابط الكمي، وكون الفوتونات تحافظ على علاقة الترابط مهما بعدت المسافات، جعلنا نثق بهذه الطريقة للتشفير، وهي من الناحية العلمية أرقى طريقة عرفها الإنسان حتى الآن وأقواها على الأطلاق، وهي إحدى مميزات ميكانيكا الكم العملاقة التي تنفرد بها عن ما عداها. تخيل أن المسافة بين المستقبل والمرسل هي مليار سنة ضوئية، في حالة التشفير الكمي، سوف يلزم ثلاث مليارات سنة لوصول المعلومة: مليار لإرسال المفتاح ومليار لإعادته للمرسل، ومليار لإرسال المصادقة. يا بلاش؟ أما في حالة التشفير بالترابط الكمي، فإن المرسل يثق بالمستقبل فوريا ولا داعي للتراسل للبحث عن المصادقة، وهذا هو السبب أن أينشتاين لم تعجبه الفكرة لأنها تتصادم مع نظريته للنسبية العامة التي تحتم وجود مليار سنة لتحرك المعلومة بسرعة الضوء كحد أقصى. ما لفرق الجوهري بين طريقة التشفير الكمي أو باستخدام الترابط الكمي من جهة وطريقة التشفير المستخدمة حاليا من جهة ثانية؟ هناك فرق مهم جدا وهو أن الهاكر لو اعترض البيانات المشفرة تقليديا، وتمكن من اعتراض عمليات بروتوكولات المصادقة، أي حصل على المفتاح، فإنه سوف يتمكن من قراءة البيانات دون علم لا من قبل المرسل ولا من قبل المستقبل. أما في حالة التشفير الكمي بنوعيه والذي يعتمد على أرسال عدد معلوم من الفوتونات التي يتوجب وصولها بالكامل إلى الطرف الآخر، فلو تم اعتراض تلك الفوتونات من الهاكر فسوف يعرف مصدرها مباشرة أنها فقدت لأنها سوف تستلم من قبل الهاكر ويحرم المستقبل منها. هذه النقطة هي من أهم جوانب قوة التشفير الكمي بنوعيه. تجربة اختبار إمكانية تطبيق مبدأ الترابط الكمي عن طريق الدرون: في منتصف شهر يناير هذه السنة (2021) [4]، تم نشر بحث حول استخدام الدرونات في تجربة الترابط وذلك من قبل فريق من جامعة نانجنج الصينية. إن السبب في ذلك يعود أساسا إلى أن استخدام الألياف البصرية في نقل الفوتونات المرتبطة كميا يؤدي أحيانا إلى ضياع جزء منها عن طريق التشتت، وكلما كانت تلك الألياف أطول كان عدد الفوتونات المفقودة أكبر. ولكن ما زالت البحوث نشطة في استخدام التشفير في بيانات الألياف على أية حال. لجأ الباحثون إلى استخدام طريقة مبتكرة للتخلص من فقد الفوتونات في الألياف البصرية، حيث أرسلوا فوتوناتهم عن طريق الجو. ولتحقيق هذا الهدف، واضعين في حسباننا أن الغرض هو إيصال فوتونين إلى مكانين مختلفين تفصلهما مسافة كبيرة، بحيث يكون هذان الفوتونان (أو قل هذا الزوج الفوتوني) مرتبط كميا، لتحقيق الهدف استخدموا درونين تفصلهما مسافة 200 م، كل درون مرتبط بمحطة أرضية، ولنقل محطة أ ومحطة ب تبعد عنه بمسافة 400 م بحيث تصبح المسافة الفعلية بين المحطات هي 1000 م (1 كم). إن استخدام زوج من الدرونات هو فقط لزيادة المسافة بين المحطات الأرضية وإلا فيكفي درون واحد، حيث استفيد من الدرون الثاني كمقوي (إن صح التعبير) للدرون الأول. وحتى نفهم ذلك جيدا، هناك مشكلة تتعلق بالفوتون المرسل حيث إنه – كما هو معروف – يتحرك بصورة موجية، وبالتالي فتؤدي ظاهرة الحيود إلى اتساع الموجة مع المسافة. من شروط هذه التجربة أن لا تتسع الموجة بأكثر من 26 مم، وهي تمثل قطر الفتحة المستقبلة للموجة في المحطة الأرضية. بالنسبة للدرون الأول (على اليسار) والمحطة الأولى (أ) على اليسار تسمح المسافة بالمحافظة على هذا الشرط. لكن لو أرسل نفس الدرون فوتونه الآخر للمحطة (ب) مباشرة، فإن الشرط لن يتحقق بسبب طول المسافة، فتم اللجوء للدرون الثاني لاستقبال هذا الفتون أولا، حيث يعيد موجته لنفس سعة الانطلاق، ومن ثم يعيد إرساله لتلك المحطة. لعلنا أدركنا مباشرة أن إنشاء شبكة إنترنت كمية قد تعتمد على عدد كبير من الدرونات موزعة على مسافات معينة، وهذا أمر تحت الدراسة حاليا من قبل نفس الفريق. يقوم الدرون الأول بإرسال زوج من الفوتونات مرتبطين كميا عن طريق خاصية الاستقطاب، هما عبارة عن فوتونين لأشعة تحت الحمراء. يرسل الأول باتجاه المحطة (أ) في حين يرسل الآخر إلى المحطة (ب) مرورا بالدرون الثاني. لدى كل محطة جهاز قادر على استقبال فوتون واحد فقط وتمييزه [*]. نجحت المحطة اليسرى (أ) في استقبال 25% من الفوتونات المرسلة إليها، في حين أن المحطة الثانية (ب) تمكنت من استقبال 4% فقط من نصيبها من الفوتونات بنجاح. ولكن هذا على مستوى التجربة يعد نجاحا لا يستهان به. والمهم فعليا هو أن الفوتونات المستلمة، بغض النظر عن عددها، قد تم فحصها فوجد أنها حافظت على الترابط الكمي بالرغم من طول المسافة. هل تعرفون ماذا يعني ذلك؟ لطالما تمكن هذا النظام المكون من الدرونات + المحطات الأرضية، من إرسال زوج فوتوني مرتبط كميا، فإنه قد نجح في إرسال مفتاح تشفير لا يمكن لأي أحد كسره، ويمكن إضافته إلى أي نوع من البيانات مثلا صور، أو نصوص، أو حتى مقاطع فيديو، فضلا عن البيانات البنكية أو الأمنية فائقة الحساسية. وهذا هو ما تم عمله في تجربة الصين والنمسا التالية، حيث تم إرسال صور وفيديو مشفرة من المحطة الأولى إلى المحطة الثانية والعكس، وتمكنت المحطتان من فك التشفير عن الصور والفيديو باستخدام المفتاح الكمي. تجربة الصين التالية سابقة لتجربة الدرونات ولكنها مكلفة ماديا حيث استخدم فيها القمر الصناعي، غير أنها أيضا منحت مسافات أكبر كما سوف نرى. تجربة الصين والنمسا: في يناير من عام 2018 قامت الدولتان باستخدام قمر صناعي لفحص مبدأ الترابط الكمي حيث تم استخدام التشفير الكمي مع صورتين و بث لفيديو [5]. وقد سبق قبل ذلك، في عام 2016 أن أطلقت الصين أول قمر صناعي لديه إمكانية التعامل مع البيانات (البتات) الكمية وهو نفسه الذي استخدم في هذه التجربة [6]. المحطة الأرضية الأولى هي محطة جنجلونج وكانت في الصين بقيادة البرفسور جيان-وي بان من جامعة العلوم والتكنولوجيا الصينية في بكين. المحطة الثانية كانت محطة قراز بالقرب من مدينة فيينا بالنمسا وبقيادة البرفسور أنتون زيلنقر وزملائه في جامعة فيينا. أما القمر الصناعي المستخدم فهو قمر ميتشيوس الصيني. هذا القمر هو جزء من منظومة متكاملة تزمع الصين رفعها للفضاء تحت مشروع: التجارب الكمية على مستوى الفضاء [7] Quantum Experiments at Space Scale. مجموع المسافة بين المحطتين هي 7600 كم (الساتل في مدار قريب من الأرض). يستطيع الساتل المذكور إرسال مفاتيح ترابط كمي إلى أي من المحطتين بشكل نبضات ليزرية كما يستقبل برتوكولات المصادقة بين الطرفين. تم بنجاح إرسال صورة ميتشيوس (فيلسوف صيني سمي القمر باسمه) من محطة الصين إلى محطة النمسا، وأرسلت صورة شرودنجر من محطة النمسا إلى محطة الصين، وكانتا مشفرتين، وتم استخدام مفاتيح الترابط الكمي التي يرسلها الساتل بين المحطتين لفتح الصورتين بنجاح. بل ذهب الباحثون إلى أبعد من ذلك حيث تم عقد اجتماع فيديو بين كل من أكاديمية العلوم الصينية في بكين وأكاديمية العلوم في فيينا بطريقة مشفرة عن طريق الساتل نفسه، وكانت مدتها 75 دقيقة وحجم بياناتها تجاوز 2 جيجابايت. هناك تجارب أخرى تالية لهذا العمل حصلت باستخدام الألياف البصرية مثل ذلك العمل الذي قام به العالم البرتو بورون مع زملائه في جامعة جنيف وتم على مسافة 421 كم، لم يضف جوهريا لما سبق ذكره أية معلومات [8]. إذن يمكننا القول إن التشفير باستخدام الترابط الكمي نجح في الاستخدام على مدى مسافات بعدة آلاف من الكيلومترات، باستخدام النبضات الليزرية كحامل لمفاتيح التشفير بين المحطتين. من وجهة نظر فيزيائية بحتة، وهي السبب في كتابة هذا الموضوع، تعتبر هذه التجربة ضمن التجارب التي أكدت صدقية مبدأ الترابط الكمي، وأنه صحيح بغض النظر عن المسافات. قائمة بالمراجع: [*] تخيل كل ما سبق ذكره ما كان ليحصل لولا هذا الجهاز، ونحن نضيفه هنا وكأنه أمر عادي. إن صناعة جهاز يستطيع استقبال فوتون واحد فقط و تمييزه هو قفزة علمية وتقنية هائلة، ويضاف له حاليا الكاميرات سريعة التصوير التي يمكنها مراقبة حركة فوتون واحد ورصده بدقة متناهية. إنها اكتشافات يقود بعضها إلى بعض، وهو أمر يبشر باكتشافات وتطبيقات مستقبلية قد لا تخطر على البال. [1] https://en.wikipedia.org/wiki/Quantum_entanglement [2] https://en.wikipedia.org/wiki/Bit [3] https://www.goanywhere.com/blog/how-encryption-works-everything-you-need-to-know [4] https://journals.aps.org/prl/abstract/10.1103/PhysRevLett.126.020503 [5] https://journals.aps.org/prl/abstract/10.1103/PhysRevLett.98.010505 [6] https://directory.eoportal.org/web/eoportal/satellite-missions/q/quess [7] https://en.wikipedia.org/wiki/Quantum_Experiments_at_Space_Scale [8] https://journals.aps.org/prl/abstract/10.1103/PhysRevLett.121.190502