تأملات في سورة النمل
- ناصر الزايد
- 24 أبريل 2024
- 7 دقيقة قراءة
تأملات في سورة النمل
ناصر بن صالح الزايد
عندما تستعرض سورة النمل ترتسم في ذهنك صورة كبيرة تجمع أطراف الدورة الكونية، وتشير في كل مرة إلى دورة الكون العملاقة: الدنيا، القيامة، الآخرة. وتؤكد أن الله (يبدأ الخلق ثم يعيده) في دورة لا يعلم إلا الله كيف تتكرر وكم تتكرر. والسورة في ثناياها تذكر قضايا ضرورية لكي تؤكد لأصحاب الشكوك أن تلك الدورة حقيقة لا ريب فيها، من خلال بيان قدرة من يتحدث عنها وعمق علمه ودقة وصفه. سوف نستعرض هنا قصة سليمان – عليه السلام – المحتوية على مؤشرات علمية مهمة، وعلى فهمه لغة الطير والحيوانات، وحديثه مع الهدهد، ومع النمل، ومع العفريت من الجن، والعفريت الآخر الذي عنده علم من الكتاب، وقصة الدابة التي تكلم الناس قبيل قيام الساعة، وقصة النفخ في الصور والذي يعد شرارة النهاية، وبعضا من ملامح قيام الساعة والأهوال التي تقع فيها والتي أقلها أن تسير الجبال مثل السحاب. كونوا معي في هذا العرض الرائع لسورة ممتلئة بالدلائل الكبرى على حقائق دامغة لا ينبغي لحازم وعاقل أن يغفل عنها.
أول ما يلاحظ على السورة كثرة ورود (الآخرة):
1. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)
2. إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)
3. أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)
4. بَلِ ٱدَّٰرَكَ عِلۡمُهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ بَلۡ هُمۡ فِي شَكّٖ مِّنۡهَاۖ بَلۡ هُم مِّنۡهَا عَمُونَ (66)
ومع أن القرآن إجمالا ذكر الدنيا 115 مرة والآخرة 115 مرة أيضا مما يؤكد الدورة الكونية بنصفيها، ويؤكد أهم سمة في الخلق وهي سمة التناسق، مثلما يؤكد تساوي أعداد الليل مع أعداد النهار بأنهما ينتميان للدورة اليومية ذاتها. إلا أن هذه السورة لم تذكر لفظة الدنيا بتاتا، بل خلت منها بشكل لافت، كونها موجهة بالكامل لحقيقة الآخرة الدامغة، ولشد الانتباه للخطر الداهم القادم، وتركيز الطرق على ذات الهدف، فليس الموضوع موضوع مقارنات، بل تم تركيز كل القوة إلى هدف واحد، وواحد فقط، منذ بداية السورة وحتى نهايتها عندما ختمت بقوله تعالى (وَقُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ فَتَعۡرِفُونَهَاۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ). فمازالت تلك الآيات تتوالي بلا توقف، وعندما تقع يعرفها الناس كما سنرى في بعض الآيات التي وردت في الماضي في هذه السورة.
وثاني ما يلفت النظر في السورة كثرة المؤشرات التي تثبت علم الله وقدرته:
1. قصة عصى موسى التي تتحول إلى ثعبان مبين
2. قصة يد موسى التي تتحول إلى بيضاء من غير سوء في تسع آيات أخرى
3. معرفة منطق الطير لدى سليمان عليه السلام
4. حشر الجن ضمن جنود سليمان عليه السلام
5. حشر الطير أيضا ضمن إمكانيات هذا النبي الكريم
6. حديث النملة قبيل مقدم سليمان عليه السلام وفهمه حديثها إلى درجة التبسم، وعمق فهم النملة لحقيقة خلقها وتركيبة جسدها الصغير
7. حديث الهدهد مع سليمان
8. قدرة العفريت من الجن على إحضار عرش مادي خلال آلاف الكيلومترات في وقت قصير
9. قدرة العفريت الذي عنده علم من الكتاب على فعل الشيء نفسه ولكن خلال غمضة عين، متجاوزا بذلك جميع النظريات والقيود الفيزيائية المعروفة حاليا.
10. حديثه عن الدابة التي سوف تخرج بعد طلوع الشمس من مغربها تكلم الناس أنهم كانوا بآيات الله لا يوقنون، وهذه الدابة سيراها الناس يوما ما وتصبح حقيقة دامغة ولكن بعد فوات الأوان
11. حديث السورة عن النفخ في الصور بصوت مجلجل يفزع بسببه من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله
12. حديث السورة عن أحد أظهر معالم التغير الكوني الهائل أثناء قيام الساعة حيث تطير الجبال كأنها سحاب، بسبب فقدها لكتلتها وجاذبيتها وانفصالها عن الأرض نتيجة حصول ظاهرة تفكك الفراغ الكاذب، وهي حقيقة علمية صارخة.
والسورة بشكل عام مملوءة بالعلم وبنوده، علم الله، علم داود و سليمان، علم الذي سيحضر عرش بلقيس، علم الهدهد، علم النمل ...
ولو أنك تأملت في هذه المعجزات العلمية الباهرة لوجدتها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أولها وقع بالفعل وعاشه قوم آخرون وشاهدوه بأم أعينهم، فهل نفع بهم؟ وثانيه: حقائق يمكن الكشف عنها حاليا والتأكد من صحتها وصدقها. والثالث: قسم آت لا محالة يؤكد صدقه وقوع القسم الأول والثاني، فهل ينفع مع المعرضين؟
وهذه الآيات وردت مرتبة في خط زمني دقيق: فمثلا آيات موسى وقعت أمام فرعون وقومه، فآمن من آمن وكفر من كفر، ومناقشة سليمان مع النمل والهدهد ظهر منها معلومات يمكن التأكد منها، فأجسام النمل (تتحطم) لأنها كالزجاج، والهدهد يتحدث عن الخبء، وهو الذي لديه قدرة على الكشف عن الماء تحت التراب. وأما العفريت الأول من الجن فقد نص القرآن على أنه من الجن، وأما الثاني فقد أشار إلى أن لديه علما من الكتاب، ولا يوجد لدى البشر كتاب غير معلوم، على الأقل في وقت سليمان عليه السلام، وأنبياء اليهود هم أهل العلم وأهل الكتب وأهل توارث النبوة والملك. وبغض النظر عن تسويد التفاسير بأقوال لا تستند على نصوص شرعية معتمدة حول حقيقة هذا الذي أوتي علما من الكتاب، فمن المؤكد أنه جني آخر. ويكفيك التأكيد على العلم الذي لدى العفريت الأول؟ فمن ذا الذي يمكنه إحضار عرش ضخم على مسافة ألاف الكيلومترات، خلال بضع ساعات، إلا من لديه علم. فلذلك لا غبار أن العلم الذي لدى صاحبه الآخر، أكثر منه، وأنه معروف لدى علماء الجن، وأنه وصل إليهم عبر الزمن من أبيهم إبليس الذي كان على عهد بالسماء ويعيش في الملأ الأعلى قبل رفضه السجود لآدم، وهو الذي كشف من خلال حواره مع ربه على أعقاب ذلك الرفض المشؤوم أنه سوف يفعل في ذرية آدم ما سوف يفعل، وأنه يعلم أن الدنيا سوف تنتهي، وأنهم سوف يبعثون، ويعلم الوقت المعلوم الذي حدده له ربه. فهو إذن صاحب علم بالمستقبل، وهو صاحب ذلك العلم الذي استند إليه العفريت، وربما أنه أمر ميسور وسهل بالنسبة لعالم الجن خاصة وأنهم قد خلقوا قبل بني آدم بوقت طويل (والجان خلقناه من قبل من نار السموم). ولهذا فإن البشر سوف يحققون الكثير من المكاسب لو توصلوا إلى إمكانية التعامل والتعاون (العلمي) مع الجن، تعاونا لا يقود إلى الشرك، ولا إلى الانصياع للجن، وهو أمر أشار القرآن إليه في أكثر من موضع منها (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ). فلاحظ أنه بدأ بالجن لأهميتهم وتميزهم في هذا الجانب. وفي موضع آخر قال تعالى (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) وهو تحد بما يمكن وقوعه وإلا فما قيمته؟ وقد بينت هذه الآية أن مظاهرة الجن للإنس مدعاة لمزيد من القوة. وهاهو سليمان عليه السلام يستعين بالجن ويجعلهم جزءا من قوته دون أن يقوده ذلك إلى الشرك أو الشعوذة. وبالتأكيد فهذا موضوع سوف يرفضه الأغلبية، بسبب ظنهم أنه لا يمر إلا عبر الإخلال بالتوحيد والوقوع في الشرك، ولا يبدو أن الالتقاء بالجن دون الوقوع في هذه المحظورات أمر مستحيل لا عقلا ولا شرعا.
أخيرا، وفي محافظة على خط زمني صاعد أو متجه باتجاه الآخرة، يرد الحديث عن ثلاثة أمور وقوعها مؤكد في قادم الأيام، وهي خروج الدابة، والنفخ في الصور (يؤدي إلى انعدام الكتلة ومن ثم الجاذبية)، و تحليق الجبال كالسحاب في الجو نتيجة انعدام الكتلة والجاذبية. فإن آمنت بما سبق فيتحتم عليك الإيمان بالقادم فهي تسرد أمامك في سورة واحدة ومن رب واحد، وإن رفضت ما سوف يأتي فلا معنى لتصديقك بما سبق، لأن الإيمان هو بالآتي وليس بما ثبت رأي العين.
إن السورة بأكملها ترسم معالم الحياة القادمة (الآخرة) وكيف ستنتهي هذه الدنيا وكيف سيكون العبور إلى الآخرة، وتملأ المشهد بما يؤكد صدق المتحدث كما سبق ذكره، وبالتالي صدق إنذاره وتحذيره. إن المسالة الأساسية إذن هي (الآخرة)، إنها قضية القضايا، وهي كذلك من زاوية من يرى الصورة كاملة، فيقرع جميع الأجراس لعل نائما أن يصحو أو أن غافلا يتذكر. اليقين بالآخرة – بحسب السورة – مؤشر على الإيمان. قسمت السورة في أول آياتها الناس إلى فريقين: من يؤمنون بالآخرة، ومن لا يؤمنون بها. وحتى يطمئن الفؤاد إلى قوة ما سوف يأتي من معجزات علمية باهرة، ووعيد خطير بنهاية مرعبة للدنيا، تثني السورة مؤكدة (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلۡقُرۡءَانَ مِن لَّدُنۡ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) وهو علم سوف يتأكد من خلال القادم من الآيات. ثم بدأت السورة تسرد قصة من القصص المؤلمة والمأساوية والمتكررة صورتها مع هذا الإنسان، إنها قصة التكبر ورفض الإيمان بالله. في قصة فرعون وموسى. يظهر القسمان اللذان سبقت الإشارة إليهما: فرعون ومن معه (لا يؤمنون بالآخرة) وموسى ومن معه (يؤمنون بها). ما هو سبب الرفض والعناد؟ إنه الظلم والعلو.
ودون إسهاب شديد في سرد قصص النبيين مع أقوامهم كما هي عادة القرآن في بعض السور، فيكتفي هنا بمثالين: قوم ثمود وقوم لوط، ويلخص قصصهم: دعوة، ثم رفض، ثم عذاب وإهلاك. وهي نسخة مطابقة لما سبق مع فرعون. قصة فرعون رسمت الإطار الأول للصورة وقصة هذين النبيين رسمت الإطار الموازي له.
وفي شحذ لهمم الناس لأخذ الحيطة من الآخرة ومعرفة الرب الذي يحذرهم، يسرد القرآن في هذه السورة عدة آيات لا يوجد في السور الأخرى ما يشبهها في توالي إيقاعها باتجاه نفس الهدف وكأنها مطارق تتوالي بسرعة من أجل أن تضرب الصخر من زوايا مختلفة حتى يتفتت ويتهاوى:
1. أَمَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ
2. وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَنۢبَتۡنَا بِهِۦ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهۡجَةٖ
3. أَمَّن جَعَلَ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارٗا
4. وَجَعَلَ خِلَٰلَهَآ أَنۡهَٰرٗا
5. وَجَعَلَ لَهَا رَوَٰسِيَ
6. وَجَعَلَ بَيۡنَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ حَاجِزًاۗ
7. أَمَّن يُجِيبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ
8. وَيَكۡشِفُ ٱلسُّوٓءَ
9. وَيَجۡعَلُكُمۡ خُلَفَآءَ ٱلۡأَرۡضِۗ
10. أَمَّن يَهۡدِيكُمۡ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ
11. وَمَن يُرۡسِلُ ٱلرِّيَٰحَ بُشۡرَۢا بَيۡنَ يَدَيۡ رَحۡمَتِهِ
12. أَمَّن يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ
13. وَمَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِۗ
لاحظ كيف تزلزل هذه التساؤلات المتتالية النفس البشرية، فهي لا تجد مفرا في نهاية الأمر إلا أن تردد مع الآيات:
1. أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمٞ يَعۡدِلُونَ
2. أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ
3. أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ
4. أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ تَعَٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشۡرِكُونَ
5. أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ؟؟؟؟؟؟ قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ
وقد يظن البعض أن الإله المذكور مع الله هو صنم ساذج مثل هبل أو يغوث ويعوق ونسرا! وينسون أن إله العلم المزعوم، وغيره من الآلهة المستحدثة، قد صرفتهم عن الإله الحق أكثر مما فعلت تلك الأصنام الصماء! وقد يظهر في صورة أصنام ذهنية لعلماء يصدون الناس عن ربهم من حيث لا يشعرون!.
وقد يستغرب المرء من توالي كل تلك المطارق على القلوب غير أن بعضها لا يكترث، فتوضح الآيات (إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين (80) وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون (81)). لن تحتاج إلى فلسفة طويلة وعريضة ولا إلى علوم معقدة حتى تشاهد الصورة الواضحة التي تتحدث عن نفسها، غير أنك تحتاج إلى قلب منيب، يسمع فيستجيب، بلا تردد، بلا فلسفه، بلا أخذ ورد، وبلا تكبير وتصغير. توضح هذا نفس السورة قائلة (وأمرت أن أكون من المسلمين (91) وأن أتلو القرآن، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين (92)). استمع لهذا القرآن أعرابي لا يكتب ولا يقرأ فآمن فدخل الجنة، واستمع إليه متعلم يملك أعلى الشهادات فكابر وجادل، ومات فدخل النار. (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).




تعليقات