top of page

تأملات في قصة صاحب الجنتين

  • ناصر الزايد
  • 15 فبراير 2024
  • 5 دقائق قراءة

بسم الله الرحمن الرحيم

تأملات في قصة صاحب الجنتين

 

تحدث القرآن بغزارة عن الشرك وحذر منه أشد التحذير، وفي المقابل تحدث عن التوحيد الخالص وبين أنه محور العلاقة مع الله. ولكننا عندما نتأمل في حياة الناس قد يبدو لنا أن هذا الحديث حول الشرك والمشركين والبراءة منهم ومن شركهم، لم يعد له ما يبرره، فلا نرى أن أحدا يشيد بالأصنام فضلا عن أن يعبدها أو يسجد لها أو يصرف أي شيء من أمور حياته في سبيلها. بل قد لا نبالغ إذا قلنا إن عبادة الأصنام بالصورة التقليدية التي كانت موجودة أيام الرسل أصبحت أمرا تمجه فطر الناس وحضارتهم، فلا نتخيل أن أحدا يسجد لكتلة جامدة بصورة إنسان أو حيوان أو حتى إله مدعى، وبخلاف ما قد يوجد في بعض البلدان المتخلفة حتى في طرائق الشرك، فإن هذه هي الصورة الواضحة في معظم قارات الدنيا.

فلم إذن يزخر القرآن الكريم بآيات الشرك والتوحيد، وهو الكتاب الذي أنزل إلى الناس كافة، و إلى الجن كافة. وللإجابة على هذا التساؤل سوف أستعرض وإياكم قصة صاحب الجنتين في سورة الكهف مع صاحبه الذي تحاور معه، وظهرت من خلال حوارهما بشكل جلي أمور حري بنا أن نكشفها لكي لا يبقى لجاهل عذر. هذا أولا سرد بالآيات لمن لا يحفظها:

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ﴿32﴾  كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا ۚ وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ﴿33﴾ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ﴿34﴾ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا ﴿35﴾ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ﴿36﴾ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ﴿37﴾ لَٰكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ﴿38﴾ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا ﴿39﴾ فَعَسَىٰ رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ﴿40﴾ أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ﴿41﴾ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ﴿42﴾ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ﴿43﴾ هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ۚ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ﴿44﴾ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ﴿45﴾ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴿46﴾

أول ما يلفت النظر هو حديث القرآن عن الجنتين نفسيهما، بحيث يرسم صورة أخاذة لهما ... فهما من أعناب ... و يحفهما النخل ... ويتوسطهما الزرع ... وهما ممتلئتان بالثمار ... و يجري ماء النهر في ثناياهما. قد يستغرب المرء لم يرسم القرآن مثل هذه الصورة الساحرة عنهما ويسميهما اسما بحد ذاته له وقع خاص (جنتين)، مع أن الأمر في نهاية المطاف لا يتجاوز أن تكون مزرعة من قسمين؟ إن المشكلة ليست من القرآن، بل من الإنسان نفسه، فالقرآن يرسم الصورة الحقيقية لهذا العطاء، غير أن الإنسان بسبب تعوده و موت إحساسه تبدو له تلك الجنان مجرد زراعة، تعودت عليها نفسه، ولم يعد لها ذلك الجمال. وهذه مشكلة متكررة مع الإنسان، فبالتعود صار الكسوف والخسوف مجرد حجب أشعة الشمس بالأرض أو القمر! وصار المطر والبرق والرعد وحركة السيول الجارفة في الأرض مجرد دورة طبيعية للماء في الطبيعة! مع أنه لو تأمل في ارضه التي يقف عليها وتصورها في الفضاء لا يسندها شيء، وهي مع ذلك باقية في هذا الفضاء منذ خلقت الدنيا، لاقشعر بدنه، واهتز قلبه. والقرآن يعيد الصورة لحقيقتها في كل مرة لعل الإنسان الذي من طبيعته الغفلة أن يتذكر أو يتأمل أو يعود إليه رشده! فلينظر الإنسان إلى طعامه! أنا صببنا  الماء صبا! ثم شققنا الأرض شقا! فأنبتنا فيها حبا، وعنبا وقضبا، وزيتونا ونخلا، وحدائق غلبا، وفاكهة وابا! متاعا لكم ولأنعامكم.

فبعد أن مات ضمير صاحب تلك الجنتين ظهرت عليه علامات خطيره جدا، فهاهو يخاطب صديقه عندما دخلهما: ما أظن أن تبيد هذه أبدا ... وما أظن الساعة قائمة ... ولإن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا. لقد خلط الحابل بالنابل، فمن شدة غروره ظن أن الجنتين لن تبيدا أبدا، و أنكر الساعة بالكلية، وافترض فرضيات لا سلطان له بها: فلإن كان ما يقول صاحبه حقا وهناك ساعة وبعث، فسوف يحصل في الآخرة على افضل من جنتيه. إن كل كلامه ترهات لا يسندها دليل ولا حجة، فلا يوجد ما يحمي جنتيه ضد أقدار الله، و الساعة قائمة رغما عن أنفه، ولإن بعث بهذا الظن فإن مصيره إلى النار، فمن أين أتى بكل تلك الترهات؟ لقد أعطاه الله درسا قاسيا في نفس مكان فخره وغروره وهو الثراء، يصحح له مفاهيمه المغلوطة: فأحيط بثمره، وأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها، وأصبحت خاوية على عروشها! فعرف أنها ستبيد إذا أراد الله لها ذلك، وأن قوله لن تبيد هذه أبدا، هو نفي لقوة تفوق قدراته وإمكانياته، كانت وما زالت تتصرف وفق إرادة صاحبها، فكيف له أن ينكر ذلك؟ فعندما جاءت تلك القوة لم يكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا؟ ولذا فكان الأولى به أن يقول كما نصحه صاحبه: ما شاء الله! فيسند الفضل إلى معطيه، ويحرر قلبه من عبودية غيره.

يقول تعالى: (وَهُوَ ٱلَّذِىٓ أَنشَأَ جَنَّٰتٍۢ مَّعْرُوشَٰتٍۢ وَغَيْرَ مَعْرُوشَٰتٍۢ وَٱلنَّخْلَ وَٱلزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُۥ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَٰبِهٍۢ). إذن هو من خلال سننه وقوانينه، وليس أنت ولا حولك ولاقوتك. وهنا تتداخل مواقف البائسين في كل زمان ومكان، فهذا قارون يقول مثل قوله (إنما أوتيته على علم عندي).

وحيث إن الحديث كان عن الشرك، و تعديل الصورة المغلوطة بأنه هو ذلك الشرك التقليدي المنتهي بالسجود للأصنام و تقديسها، فهذه القصة تكشف الصورة الحقيقية للشرك. فهذا صاحبه يقول بعد أن سمع حواره معه: (لكنا هو الله  ربي ولا أشرك بربي أحدا) فقد اعتبر أن فعل صاحبه هذا هو نوع من الشرك، وقد يظن أحد أن وصفه لصاحبه بالشرك هو ظلم له وتعد عليه؟ لكنه هو بنفسه بعد ان ابتلاه الله قد اعترف بذلك (ويقول يا ليتني لم اشرك بربي أحدا). إذن هو وصاحبه يعرفان أن التصرفات التي صدرت من قبله هي شرك مكتمل الأركان.

فما الذي جعلها شركا؟ دعونا نعرف الشرك أولا حتى نستفيد من القيمة الذاتية لهذه الكلمة:

إن الشرك أزمة بشرية مستمرة طالما هناك بشر، والقرآن نزل ليعالج هذه المشكلة الأزلية. يعرف ابنُ تيميَّةَ الشرك بقوله:  (أصلُ الشِّرْكِ أن تَعدِلَ باللهِ مخلوقاتِه في بعضِ ما يَستَحِقُّه وَحْدَه). فعندما نسقط هذا التعريف على فعل صاحب الجنتين: هو يظن أن الجنتين باقيتان إلى الأبد، وأن الساعة لن تقوم، وأنه على فرضية قيامها سوف يحظى بأفضل من جنتيه. في حين أن الله يؤكد: كل شيء هالك إلا وجهه، و إن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الغيب لا يعلمه إلا الله. وقد قدم هذا الرجل قوله على قول خالقه، فصار مشركا، لأنه عدل نفسه بالله فيما لا يستحقه إلا الله.

يقول تعالى: (وَلَا تَأۡكُلُوا۟ مِمَّا لَمۡ یُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَیۡهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسۡقࣱۗ وَإِنَّ ٱلشَّیَـٰطِینَ لَیُوحُونَ إِلَىٰۤ أَوۡلِیَاۤىِٕهِمۡ لِیُجَـٰدِلُوكُمۡۖ وَإِنۡ أَطَعۡتُمُوهُمۡ إِنَّكُمۡ لَمُشۡرِكُونَ). إذن طاعتهم عندما تتناقش معهم وتقول: إن الميتة حرام، مقدما قول الله، فيقولوا ما شاؤا من حجج، فإن أطعتهم فقد قدمت طاعتهم على طاعة الله فصرت مشركا به، والشريك في هذه الحالة هم هؤلاء الأشخاص. إذا كان هذا يصل حد الشرك، فما بالك بمن نسف الآلهة بصورة كاملة واستبدلها بفكر إلحادي بحت، وبمن صارت حياته كلها تخضع للأطروحات البشرية بعيدا عن وحي السماء، في أكله وشربه وحياته، وسائر تصرفاته! فعن أي مستوى من الشرك نتحدث؟ لعل مما يلخص ذلك قوله تعالى (قُلۡ إِنَّ صَلَاتِی وَنُسُكِی وَمَحۡیَایَ وَمَمَاتِی لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ ۝١٦٢ لَا شَرِیكَ لَهُۥۖ وَبِذَ ٰ⁠لِكَ أُمِرۡتُ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُسۡلِمِینَ ۝١). وعلى هذا فأي جانب من جوانب حياة المرء إما أن يكون لله أو لغيره، فإن لم يكن لله فهو قطعا لغيره، وهو الشرك بعينه.

وهنا يظهر بوضوح سبب كثرة حديث القرآن عن الشرك، حيث إنه لا يعني بالضرورة ذلك الشرك التقليدي الذي أشرنا إليه. و هذا يؤكد ان الشرك موجود عند البشر في كل زمان ومكان. وحيث إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك، استحق أن يستأثر بهذه المساحة الشاسعة في صفحات القرآن، حيث هو الخطر المؤكد بالنسبة للبشر، وهو سبب الخسارة الكبرى (ذلك هو الخسران المبين).

 
 
 

1 Comment


profqusai
Feb 15, 2024

ملاحظات جميلة يعطيك العافية

Like
  • Twitter
  • YouTube

©2022 by الموقع الشخصي: ناصر بن صالح الزايد

bottom of page