top of page

سورة يوسف عليه السلام تكتسي بالعلم

  • ناصر الزايد
  • 4 نوفمبر 2022
  • 10 دقائق قراءة

تاريخ التحديث: 12 أكتوبر 2024

سورة يوسف عليه السلام تكتسي بالعلم

أ.د. ناصر بن صالح الزايد

12 ربيع الثاني 1443 هـ


بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى أصحابه الغر الميامين، وبعد،

من أشد ما يلفت النظر في سورة يوسف عليه السلام كثرة ورود العلم ومشتقاته، حيث ورد بصيغ مختلفة تجاوزت 33 مرة، ويمكن ملاحظة ذلك باستعراض سورة يوسف.

وربما لا يبدو الأمر غريبا حيث إن جد يوسف هو إسحق بن إبراهيم عليهما السلام وهو الذي وصفه من يعلم من خلق بقوله (قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ) وتكرر وصفه بالعليم في القرآن مرتين. لقد كان إسحق عليما بالفطرة، كما ظهر العلم لدى ابنه يعقوب ومن بعده الحفيد يوسف على الجميع صلوات الله وسلامه. لقد تفرع عن يعقوب إضافة إلى يوسف 11 ابنا مثل كل منهم أحد بني إسرائيل (لقب يعقوب) وتفرعت منهم قبائل بني إسرائيل بعد ذلك.

الغريب تصرف يوسف عليه السلام عندما فكر بسحب أخيه الشقيق بنيامين؟ هل كان وحيا؟ أم يقع ضمن العلم الفذ الذي أوتيه؟ دعونا نتأمل في هذه الاسرة وخاصة الأولاد وبالذات الذكور. فقد كان ليوسف أخ شقيق هو بنيامين كما قلنا وأمهم هي راحيل، وستة إخوة من الأب عن طريق أمهم ليا بنت لابان هم: روبين، ويهودا، ولاوي، وشمعون، و زبولون، وياساكر. وله أخوان غير شقيقين أمهما بيلها وهما: دان، ونفتالي. وأخيرا هناك أخوان غير شقيقين هما: جاد، وعشير من أمهم زيلفا. إذن صار عدد جميع أبناء يعقوب الذكور: 12 بما فيهم يوسف وشقيقه. لقد لاحظ يوسف أنهم لم يأتوا بهذا الشقيق معهم في زيارتهم الأولى، وبالتالي فلن يأتوا به في قادم الأيام، لسبب يتعلق بالغيرة منه ومن أخيه (يوسف). ولكن الرؤيا فيها 11 كوكبا أي يتوجب أن يكون شقيقه معهم، وحتى يضمن تحقق الرؤيا بحذافيرها، فقد طلبه كشرط للكيل القادم، ضمن مصالح أخرى ربما تكون عرضية كإعطاء إشارة إلى ابيه في أنه حي يرزق، وكسرا لشوكة إخوانه، الذين فرطوا فيه وفي أخيه بهذه السهولة. كان يوسف واثقا أن أباه سيظل حيا وكذلك أمه وجميع إخوانه، حتى يسجدوا له في تأويل رؤياه التي رآها. ولعل هذا سبب أن يطلب حضور الجميع (وأتوني بأهلكم أجمعين).

ولإن كانت الرؤيا جزءا من النبوة، وهي التي جعلت يوسف يصل إلى هذا الاعتقاد، فإن النبوة المباشرة هي التي جعلتنا نقطع بأن الذبيح هو إسماعيل وليس إسحق، لأن النبوة تقول: ومن وراء إسحق يعقوب، فكيف يؤمر بذبح ابن لم يتزوج ونسله مضمون بنص البشرى الإلهية؟

لم يكن العلم وكثرة وروده في هذه السورة الخاصة ببني إسرائيل، لم يكن هو الشيء الوحيد المتعلق بما وهب الله لجدهم إسحق ومن ورائه أبناؤه، بل إن التأمل في السورة لا ينتهي إلا بالتسبيح والتقديس لرب إسحق ومن بعده بنو إسرائيل.

لنتأمل في كلمة (تأمنا) في الآية (قالوا ما لك لا تأمنا على يوسف). فهذه الكلمة متروسة بالعلم العميق، فهي الكلمة الوحيدة في القرآن الكريم التي جمعت بين حكمي الروم والإشمام في وسطها، وهي تحمل النية المبيتة لدى الإخوة بعمل شيء ما مضاد لما تعرب عنهم شفاههم، وهي أول مرة يقوم القرآن بتعرية بني إسرائيل في تضارب ما يبيت في القلوب مقابل ما يرد على الألسنة، وهنا لفتة عظيمة سمعتها من أحد الشيوخ لم يتوفر لدي اسمه: فالإشمام هنا جعل الكلمة ترد على اللسان بشكل يبدو فيه ارتباك وتلعثم، فهم كانوا مرتبكين متلعثمين أمام أبيهم بسبب نيتهم المبيتة (انتهى النقل). وهي أيضا تشير إلى أن عدم الثقة قد سبق في محاولة سابقة، وأخيرا فهي تثبت أن القرآن سماعي يتم نقله بالرواية حيث يصعب كتابة هذه الكلمة بالشكل المعطي للروم والإشمام دون سماعها رواية. فتأمل في عظمة القرآن


لنتأمل أيضا في رمزية رؤيا يوسف الطفل، التي قصها على أبيه. لقد كانت الشمس ترمز للأب، والقمر للأم، والكواكب الأحد عشر للإخوة. و هي رمزية تحمل معاني علمية عميقة، فالأم – بحسب الشرائع – تبع للأب وهو صاحب القوامة عليها، ومعلوم فلكيا أن القمر تابع للشمس وليس العكس. كما أن رمزية الكواكب للأبناء كرمزية إلحاقهم بأبيهم كما تلحق الكواكب بالشمس. هل كان يوسف يعلم هذه الحقائق؟ أم كان يعقوب يعلمها؟ كلا، ولكن الذي أراه الرؤيا يعلمها، وهي تشير إلى وحدانية الخلق واتساق نواميسه، فما يجري على الكواكب والنجوم هو نفسه ما يجري على العباد! سبحان الله. كما تلهمنا أهمية الرمزية في تأويل الرؤى، وأنها لا تخرج عن النواميس الكونية والفطرة الإلهية.

وأما رمزية السجود ليوسف فربما يقع تحت حقيقة سجود الكائنات وبالذات الشمس والقمر كما سجود البشر، وسجود الكائنات هو سجود لا نعلم كيفيته (أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُۥ مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِى ٱلْأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ ۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ ۗ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكْرِمٍ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ).

لقد كان يعقوب يعلم تأويل الرؤيا، ويعلم أن أبناءه سيعلمونها أيضا لو سمعوها ولذلك نصح يوسف بعدم قصها عليهم، وأما يوسف نفسه فقد كان آية في تأويل الرؤى. إذن كانت الأسرة كلها ذات علم في هذا الجانب. وأما يعقوب نفسه فقد كان يتحدث مع الأبناء في ثنايا القصة حديث الواثق أن يوسف حي، وأنه سوف يقابله يوما ما، لأن الرؤيا لم تقع بعد وهو واثق أنها لابد وأن تقع، وأنه هو الشمس المذكورة فيها (ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون).

مما يستغرب أن يعقوب قال لابنه مبشرا إياه: ويعلمك من تأويل الأحاديث، وقد صدقه الله في ذلك عندما قال: ولنعلمه من تأويل الأحاديث، فكيف عرف يعقوب أن الله سيعلمه هذا العلم؟ وقد اعترف يوسف لاحقا أن الله هو الذي علمه (ذلكما مما علمني ربي).

أما يوسف وتفسيره للرؤيا فقد كان فعلا آية من آيات الله، وهو الذي ألقي في البئر صغيرا، ثم تربى كخادم في فترة شبابه، ثم سجن فترة أخرى، فأين تعلم هذا العلم ياترى ومتى؟ أليس واضحا أنه فطرة وهبة إلهية بحتة.

دخل معه السجن فتيان: الأول رأى أنه يعصر خمرا، والآخر يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه. فسر الرؤيا الأولى على ظاهرها فليس فيها رمزية، يعصر خمرا عند الملك. وأما الآخر فتحمل رؤياه رمزية فهو يحمل خبزا تأكل الطير منه، وليس من عادة الطير أن تأكل من الخبز الذي فوق الرؤوس، ولكنها تأكل من تلك الرؤوس عندما يموت أصحابها وهم مصلوبون. لقد أكد القرآن وقوع الرؤيا الأولى والثانية بقوله (وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة) فدلت على أن الأول لم ينج، وأكدت على أن الثاني أصبح من رجال الملك في تصديق لتأويل يوسف لتلك الرؤى.

تبدو قدرات يوسف العلمية واضحة في تأويل رؤيا الملك (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ). حيث فسر البقرات بالسنوات والسنبلات بالإنتاج، ولكن من أين أتى بالعام الذي يغاث فيه الناس وفيه يعصرون؟ ربما من الشخص الذي طلب منه تفسير الرؤيا، فهو نفسه الذي رأى أنه يعصر خمرا، وهذا لن يتحقق في السنوات السبع العجاف كما هو واضح، ولا في السنوات السبع التي فيها الخير بسبب أن الناس سيخافون من القادم ويحتفظون بكل الإنتاج الزائد، فليس ثمة فرصة للأكل فضلا عن العصر. وإنما بعد نهاية الدورة الاقتصادية المتكاملة ستتغير الأحوال حتى يصبح الناس يعصرون الفواكه وهي قمة الرفاهية ورغد العيش وفي هذا تحقيق لرؤيا السائل نفسه عندما كان في السجن.

إن وضع هذه الرؤيا بهذا السياق المتكامل، حيث ذكر عدد سنوات الخير وعدد السنوات العجاف، و أردف ذلك بالعام الذي فيه يغاث الناس وفيه يعصرون، وذكر كيف يتم التعامل مع هذه السنوات المتقلبة، هو أمر تجاوز مجرد تأويل الرؤيا إلى علم يتعلق بأفضل طرق إدارة الاقتصاد في الظروف الصعبة والمتقلبة. إن تفسير يوسف للرؤيا ونصائحه المتعلقة بها وكأن تفسيره أمر لا مراء فيه، هو علمي من ناحية أخرى، فيوسف قطع بمراحل الاقتصاد المتقلبة مع أنه لا يعلم شيئا عن ظروف الطقس والمناخ، وبالتالي فهو لم يقرأ الظروف القادمة من قراءته للطقس أو المناخ، بل علمه تجريدي يتحدث عن وضع سيقع قطعا بغض النظر عن أسبابه، ثقة بالرؤيا وتفسيرها. وفي هذا إرشاد لنا مقابل النبوءات، والرؤيا جزء من النبوة، فعندما يبشرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحداث ستقع مستقبلا، فلا نسأل كيف ستقع والظروف كذا وكذا، فالوعد وعد، والحق واقع لامحالة شاءت الظروف أم أبت.

ثم لنتأمل في عبارة يوسف عندما قال في آخر السورة (إِنَّ رَ‌بِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إنه هو العليم الحكيم) حيث يلاحظ أن هذا هو كلام يوسف يرويه القرآن كما قاله، وفيه عبرتان: الأولى أنه بدأ بالعليم قبل الحكيم، في تأكيد على الدور الطاغي للعلم في هذه القصة والسورة التي تسرد تفاصيلها، وقد سبقه في ذلك أبوه يعقوب عندما قال (إن ربك عليم حكيم). والثانية: استخدامه لاسم من أسماء الله متعلق بدقة العلم وعمقه، فكما هو معلوم أن اسم اللطيف كلما ذكر في القرآن قرن مع اسم الخبير (اللطيف الخبير) إلا في مرة واحدة فقط. وقد وردت في مثل (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) والبصر مرتبط بالفوتونات وهي مخلوقات لطيفة خفية لا يعلمها إلا أصحاب العلم. ومنها قوله (يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير). فمعرفة تفاصيل الذرات وحبات الخردل وما هو أصغر يحتاج إلى علم لطيف عميق فارتبط باللطيف الخبير.

مجال علمي آخر، ولولا أن ورود العلم وتكراره في السورة قد قطع علينا طريق اعتبار الإعجاز، لقلنا إن شفاء يعقوب وعودة بصره إنما هي معجزة إلهيه بعد أن شم رائحة يوسف. ولكن الواضح الجلي بعد كل ما مر من عنصر العلم، أن الأمر علمي بكل ما تحمله الكلمة سواء عرفناه الآن أم نعرفه لاحقا، ولن أخوض فيما قيل حول ذلك فليس هو مجال هذه الأسطر. ولكن يوسف كان يعلم أن إرسال قميصه إلى أبيه، بشرط أن يتم ألقاؤه على وجهه، سوف يأت به بصيرا وبشكل فوري (ألقوه على وجهه يأت بصيرا). تكرر ذكر الإلقاء على الوجه لأهميته (فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا) والفاء للترتيب والتعقيب الفوري. إذن المسألة ليست بمفاجأة الخبر ولا بتأكده الذي يمكن حصوله عن طريق البشير، بل إن إلقاء القميص مطلوب بحد ذاته للشفاء من العمى الذي أصاب يعقوب من شدة الحزن والكرب على ابنيه. هل كانت رائحة العرق هي السر؟

يوسف كان صاحب علم ومنطق علمي رصين، فهاهو يناقش من معه في السجن: أ أرباب متفرقون خير؟ أم الله الواحد القهار؟ فلاشك أن توحيد المعبود خير من تعدده، ويقول لهم: إنكم تعبدون من دون الله أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان، فما حجتكم؟ فهو يوجه انتقادات قوية لمنهجهم لا قبل لهم بردها.

يعقوب نفسه كان صاحب علم لدني أيضا، فعندما طلب من أبنائه أن لا يدخلوا من باب واحد بل من أبواب متفرقة خوفا من العين، عقب الله على فعله ذلك بقوله (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) مع نفي الله – سبحانه – أن يكون فعلهم هذا سببا كافيا ضد القدر، بل النافع الضار هو الله وحده (مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ). لكنه علمه هو بما لديه من أدوات وهبها الله له، ولا يتجاوز حدوده البشرية، فها هو يقول تعليقا على فقد الابن الآخر بنيامين (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا)، مع أنهم ليست لهم علاقة بهذا الأمر.

وطالما أن سياق السورة زاخر بالعلم والإشادة به والحديث عن ثمراته والتعرض لأدواته وسماته، فتقول السورة في آخرها: (وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون). فهي بذلك تحث الناس على التأمل والاستفادة من تلك الآيات الكثيرة التي يمرون عليها للكشف عنها والاستفادة منها، والتعلم من دروسها.

في الوقت الذي تؤكد فيه السورة على العلم ودوره ومصدره، فإنها تلقي بظلالها على الجهل و عدم العلم. ففي داخل السجن يقول لمن حوله: (مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ) ويقرر أن أساس العلم هو السلطان أو الحجة والبرهان وبدون ذلك يصبح الأمر هراء لا قيمة له. ويقول كذلك (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) مؤكدا منهجا قرآنيا شرعيا متكررا في أن الأكثرية لا تدل بالضرورة على العلم بل العكس تماما. وقد تأكد ذلك في اعتراف المعبرين للعزيز عندما قالوا: (قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ) فهم كثرة ولكنهم ظنوا أن هذه الرؤيا الحق مجرد اضغاث أحلام، مما يؤكد ثانية أن رأي الأكثرية ليس مستندا علميا بحد ذاته. والله سبحانه أكد ذلك في آخر السورة (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) وقال أيضا (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون). لقد وقع أخوة يوسف أكثر من مرة في هذا الخطأ بالذات من مثل قولهم (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) فظنوا أن مجرد كثرتهم تكفي لتغيير عاطفة الأب.

يوسف عندما جاءه الطالب يطلبه للملك، رفض الاستجابة إلا بنفي العلم المغلوط عنه، (قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ). كان يريد أن تكون صفحته بيضاء ولا توجد حوله أية شبهات.

ويوسف يصف إخوته بالجهل عندما فرطوا به وبأخيه (قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ) وهي مقدمة للعفو عنهم، فموقف العالم مع الجاهل هو الصفح والإعراض.

والجهل بالأشياء يقلل من قيمتها، فالذين عثروا على يوسف في البئر باعوه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين.

أخيرا ربطت السورة بين التوفيق الذي حظي به يوسف في كل مراحل حياته وبين الإحسان (وكذلك نجزي المحسنين) (ولا نضيع أجر المحسنين). فأول التوفيق تلك الرؤيا التي رسمت له حياته المستقبلية، وعرف أنه سينال حظوة ومكانة عظيمة يوما ما، مما أعطاه الطمأنينة والثقة. ومن التوفيق أن الله صرف إخوته عن قتله إلى رميه في البئر، بل من التوفيق أنهم تآمروا عليه! وكادوا له، ومن التوفيق زهادة الذين وجدوه في البئر به فباعوه إلى من يرعاه بشكل أفضل، ومن التوفيق أن الذي اشتراه هو سيد مصر الذي أحسن مثواه، ومن التوفيق أن الله أراه برهانا على خطأ الوقوع في شباك سيدة قصر العزيز، وبذلك صرف عنه السوء والفحشاء، ومن التوفيق أن الله أنطق من شهد له بالبراءة عن طريق فحص القميص من قبل ومن دبر، ومن التوفيق أن الله صرف عنه كيد النساء، ومن التوفيق أن الله علمه التأويل الذي فتح له أبواب الرزق. ومن التوفيق دخول السجينين مع كل منهما رؤيا حيث أن تأويل تلك الرؤيا قاد إليه ونفعه في النهاية، بل من التوفيق نسيان الناجي منهما لوصية يوسف، إذ لو تذكر لربما تغير مسار الأحداث ولكن الله أراده أن يمكث في السجن حتى تأتي الفرصة المناسبة، ومن التوفيق رؤيا الملك، وعجز المعبرين عن تعبيرها، ومن التوفيق أن الله ساق إخوانه مع البدو إليه لطلب التموين. ومن التوفيق أنهم أنزلوا حكم السارق على حكمهم، فكان ليوسف ما يخطط له. فتأمل كيف ساق الله كل هذا الخير ليوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم، وربطه بالإحسان وهو درجة عالية من الصلاح والعلاقة بالله. وتأمل كيف حبك الله – سبحانه – كل هذه الأحداث لكي تصب في اتجاه واحد منذ نعومة أظفار يوسف، وكيف رعاه وحفظه، ويوسف عرف ذلك وشكر الله على هذه النعم العظيمة وسأل الله أن يختم له بالوفاة على الإسلام وأن يلحقه بالصالحين.

لقد علمتنا هذه السورة، المبدئية التي يسير فيها هذا الكون. فرؤيا يوسف لها رمزية فلكية، ومن شأن الأفلاك أن تتقلب بين أوج وحظيظ، ولقد كان ليوسف حظ كبير من هذا التقلب، لنتأمل: كان ليوسف حظوة لدى أبيه وهو أوج، غير أنه أدى لتآمر إخوانه عليه ودخوله في غيابت الجب وهو حظيظ، ثم انتقل إلى قصر الملك وهذا أوج، فانتهى به الأمر إلى السجن وهذا حظيظ، ثم أصبح عزيزا لمصر وهذا أوج، وانتهى به الأمر إلى الوفاة وهذا حظيظ. وتلك الأيام نداولها بين الناس، يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولى الألباب.

يقول سابق البربري:

والمَــرءُ يَـصـعَـدُ رَيـعَـانُ الشَـبَـابِ بـه *** وكُـــلُّ مُـــصــعــدَةٍ يَــومــاً ســتَــنــحَــدِرُ

أقول حقا وصدقا: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب، ما كان حديثا يفترى، ولكن تصديق الذي بين يديه، وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون). فكم وقع في ثنايا القصة من الذنوب، ولكن كانت التوبة خاتمتها، ورحمة الله ومغفرته مسحتها، فهو رحمة وهدى لنعمل مثلهم إن كنا من الخاطئين أو لنكن من أصحاب اليد الطولى المبادرين. ونقول مثل يوسف: اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين.


Yorumlar


  • Twitter
  • YouTube

©2022 by الموقع الشخصي: ناصر بن صالح الزايد

bottom of page