top of page

البصمة الوراثية وإعادة الخلق

  • ناصر الزايد
  • 4 نوفمبر 2022
  • 12 دقيقة قراءة

تاريخ التحديث: 6 نوفمبر 2022

بسم الله الرحمن الرحيم

البصمة الوراثية وإعادة الخلق

أ.د. ناصر بن صالح الزايد

ملخص البحث:

البصمة الوراثية هي التي تحفظ السجل التاريخي للكائنات، وعندما تنشأ الكائنات فإنها تستعيد ماضيها بناء على تلك البصمة. فالسمك عندما ينشأ في مياه السيول الراكدة يستعيد كل سمات السمك الأصلي الذي قد يكون مات منذ ملايين السنين. وفي يوم البعث يمر الإنسان بطورين الأول نزول ماء من السماء ينبت بسببه الجانب الجسماني للإنسان من بقايا جسمه السابق، ثم يمر الطور الثاني بالنفخ في الصور حيث تتطاير الأرواح وتلتقي مع أجسادها بناء على بصمتي الجسم والروح، فيعود الناس أحياء ويقوموا لرب العالمين. وبهذا تكرر المشهد الأولي للحياة حيث خلق آدم أولا كجسد، ثم نفخ الله فيه من روحه فصار بشرا سويا. بهذه البساطة يتم إعادة الخلق ولذلك يقول الله عز وجل (وهو أهون عليه) أي إعادة الخلق أهون على الله من إنشائه من العدم.


مقدمة البحث:

الحمد لله رب العالمين، الذي خلق فأحكم، وقدر فهدى، وله الآخرة والأولى، والصلاة والسلام على رسوله الأمين الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة وجعلنا على المحجة البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك.

وأما بعد فهذا مبحث تلجلج في نفسي لفترة طويلة، وأحببت أن أكتبه أخيرا وأنشره لما تيقن لدي بأنه مفيد في تقوية الإيمان بالبعث والنشور، وبالتالي إيقاظ الخوف من الله، و حث الهمم على الاستعداد لذلك اليوم الرهيب، حيث البعث والخروج من القبور والقيام لرب العالمين في يوم طويل طويل، شديد الهول، لا يملك فيه الإنسان أي قوة، ولا يوجد أية فرصة للهرب من مقابلة نتائج عمله في الدنيا (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء! لمن الملك اليوم! لله الواحد القهار).

وأنا أعلم أن بعض إخواني من أهل العلوم الشرعية قد لا يعجبهم المبحث، لسبب أو لآخر، غير أني في الحقيقة لم آت بجديد من حيث الأسلوب. فهاهم المفسرون قديما وحديثا، يفسرون القرآن والسنة بحسب اللغة، والعلم، والخبرة، والفهم، لذلك فقد توكلت على الله وكتبته، مع تقبلي لكل ناقد بعلم ودليل.


البصمات تعيد دورة الحياة وتنقل تاريخ الكائنات عبر العصور:

نبدأ من قوله تعالى (أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه، بلى قادرين على أن نسوي بنانه). خلق الله الإنسان وميزه بالبصمات، بصمة الاصابع، بصمة العين، بصمة الصوت، وأهمها على الإطلاق البصمة الوراثية. سبحانه مبدع في كل ما خلق. وفي الآية المذكورة تلميح إلى الخلق الثاني وارتباطه بالبصمة. يستغرب الإنسان كيف يعيد الله الخلق مرة أخرى؟ والله سبحانه وتعالى يلفت نظرنا إلى أن هذه الإعادة تتكرر دائما أمامنا ولكننا لا ننتبه. لنتأمل في الآيات التالية:

2. وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ كَذَٰلِكَ النُّشُورُ (فاطر أية 9).

3. وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا ۚ كَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ (الزخرف آية 11)

5. يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ وَكَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ (الروم 19)

6. وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّهُۥ يُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ (6) (الحج آيات 5 و 6).

هذه الآيات مجمعة على تشبيه نزول المطر وإحياء الأرض بإحياء الناس يوم القيامه وخروجهم من قبورهم (كذلك تخرجون، كذلك النشور،...) أي مثل ما تشاهدونه بعد نزول المطر يكون إخراجكم من قبوركم يوم القيامة.

الآيات لخصت دورة الخلق والإماتة ثم الإحياء: هناك بقايا من كائنات حية نباتية كانت أم حيوانية، وتلك البقايا قد تكون بذورا، وقد تكون بصورة بيوض، وقد تكون متحورة بصور أخرى كالقواقع بسبب طول الزمان. وعندما ينزل المطر لفترة زمنية كافية، في وقت مناسب، فإن تلك البقايا تعود للحياة. ولنتأمل في الأمر أكثر وأكثر، ولنأخذ مثالا صارخا يشاهده الناس بأعينهم، عندما ينزل المطر لفترة كافية ويتجمع في مكان منخفض ويظل كذلك لفترة كافية، تظهر الأسماك في تلك التجمعات. إن هذه الأسماك جاءت من بقايا جافة وربما متحورة ومرت عليها قرون متطاولة، ومر عليها الحر والقر، والجفاف، وانطمر بعضها تحت التراب، وتعرضت للكثير من العوامل القاسية، غير أنها بمجرد أن جاءت الظروف الملائمة عادت إلى الحياة. وتلك العودة عجيبة بكل ما تعنيه الكلمة، فقد عادت وعادت معها كمية من العلم السابق المرتبط بسلاسلها الوراثية المخزنة بتلك البقايا المشار إليها. فبمجرد أن تعود للحياة، تعرف مباشرة عدوها من صديقها، وتعرف كيف تسبح وتعوم، وتعرف ماذا تأكل وماذا لا تأكل، وتعرف كيف تتزاوج، وتعرف كيف تصدر صوتا، وتفهم صوت الطرف الآخر من نوعها، وتتفاعل معه بطريقة إيجابية. إن كل ماذكرنا هو (علم) و (معلومات) فكيف يا ترى عادت إليها الحياة بعد أن كانت أثرا بعد عين، وكيف عاد مع الحياة كل ما كانت تعرفه سابقا فصارت نسخة طبق الاصل من سابقتها. وكيف وصلت تلك المعلومات الجسدية والعقلية عن طريق السلاسل الوراثية بالرغم من مرور دهور طويلة قد تكون مليارات من السنين؟

إنها البصمة الوراثية إذن، هي التي تحتفظ بسجلك كاملا. وإن كانت الحيوانات كالأسماك هي نسخ متكررة من بعضها، فإن الإنسان له بصمة خاصة به، أي أنه لا يتكرر، بل يعود نفسه على أساس بصمته الوراثية المتبقية بعد موته. وهذا سر إشارة الآية الكريمة (بلى قادرين على أن نسوي بنانه) أي أننا نستخدم بصمته البنانية لعودته للحياة، ولو سوينا بنانه، فإن لدينا حلولا أخرى تحمل نفس البصمة اللازمة لعودة الحياة.

وحيث إننا قلنا بأن تلك البصمة عندما أعادت السمكة إلى الحياة أعادت معها كمية لا بأس بها من العلم والمعرفة المشفرة في تلك البصمة، فإن بصمة الإنسان سوف تعيد معها علمه السابق، ولذلك نرى في القرآن إشارات إلى أن أهل الآخره سواء منهم المؤمنون في الجنة أم الطالحون في النار، يتذكرون أيامهم في الدنيا. فيقول الله عن المؤمنين (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ ۖ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) سورة الطور) فهم يتذكرون أيامهم في الدنيا وكيف كانوا. وقال تعالى (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51)يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) سورة الصافات).

دعوني أفصل أكثر عن طورين مهمين في عودة الناس من قبورهم لرب العالمين والمذكورة في عدة آيات منها:

1. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ۜ ۗ هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) (سورة يس)

2. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ (الزمر 68)

3. وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ۖ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (الكهف 99)

4. يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ۚ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (طه 102)

5. وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ۚ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (النمل 87)

6. خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ (القمر 7)

7. يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (النبأ 18)

8. وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ۚ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ (25) (من سورة الروم)

9. يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ (المعارج 43)

10. فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ (الصافات 19)

12. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ۚ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍۢ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ (21) سورة ق

14. إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ (يس 53)

15. وَمَا يَنظُرُ هَٰؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ (ص 15)

16. يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (ق 42)

بعض معاني الكلمات_ الأجداث: القبور، الصور: بالضم ، آلة ينفخ فيها الملك إسرافيل يوم القيامة النفخة الأولى، وهي نفخة الفزع ، وفيها يختل النظام الكوني، والنفخة الثانية، وهي نفخة الصعق وفيها يموت جميع الخلائق إلا ما شاء الله، والنفخة الثالثة، وهي نفخة البعث والنشور (من المعجم). لي وقفة في مكان آخر على النفخات الثلاث، وترتيبها، ولكن نقلتها من المعجم كما هي.

الصيحة = الزجرة = النفخ في الصور= النقر في الناقور (كلها ألفاظ تعبر عن نفخة البعث، وهي نفخ الملك في الصور وهو شيء يشبه البوق). عبر عن البعث بألفاظ: قيام ينظرون، ينسلون، يخرجون، إذا هم بالساهرة (ظاهر الأرض).

الأحاديث التالية تتفق مع الآيات قلبا وقالبا، وتزيد بعض التوضيح، ولذا فقد لا يهم أن نبحث في قوة الأحاديث طالما أنها لا تكون إلا من مصادر نبوية، فمن الذي يمكنه أن يتصور البعث في الآخرة بهذه التفاصيل المتفقة مع القرآن إلا من طريق الوحي؟

ومن هذا ما روي عن عبد الله بن مسعود، وهو مما لا يؤخذ به إلا بالتوقيف، قال: يرسل الله جلّ وعزّ ماء مثل ‌منيّ ‌الرجال وليس شيء خلق من الأرض إلّا وقد بقي منه شيء فتنبت بذلك الجسمان واللحوم تنبت من الثرى والمطر ثم تلا عبد الله وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ.

وورد في الخبر أيضا أنه إذا كان قبل النفخة الأخيرة أمطرت السماء أربعين يوماً مثل ‌مَني ‌الرجال فتشرب الأرض، فتنبت الأجساد بذلك الماء، ثم ينفخ في الصور، فإذا هم قيام ينظرون.

وقال ابن عباس وابو هريرة إذا مات الناس كلهم فى النفخة الاولى مطرت السماء أربعين يوما قبل النفخة الاخيرة مثل ‌منى ‌الرجال فينبتون من قبورهم بذلك المطر كما ينبتون فى بطون أمهاتهم وكما ينبت الزرع من الماء حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيها الروح

وقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تُفَضِّلُوا بيْنَ أَنْبِياءِ اللَّهِ، فإنَّه يُنْفَخُ في الصُّورِ، فَيَصْعَقُ مَن في السَّمَواتِ ومَن في الأرْضِ، إلّا مَن شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُنْفَخُ فيه أُخْرى، فأكُونُ أَوَّلَ مَن بُعِثَ، فَإِذا مُوسى آخِذٌ بالعَرْشِ، فلا أَدْرِي أَحُوسِبَ بصَعْقَتِهِ يَومَ الطُّورِ، أَمْ بُعِثَ قَبْلِي، ولا أَقُولُ: إنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِن يُونُسَ بنِ مَتّى. صحيح البخاري برقم ٣٤١٤ ومسلم برقم ٢٣٧٣

ويؤيده حديث أبي هريرة الذي أخرجه الشيخان «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم قال: ( ما بيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أرْبَعُونَ قالَ: أرْبَعُونَ يَوْمًا؟ قالَ: أبَيْتُ، قالَ: أرْبَعُونَ شَهْرًا؟ قالَ: أبَيْتُ، قالَ: أرْبَعُونَ سَنَةً؟ قالَ: أبَيْتُ، قالَ: ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيَنْبُتُونَ كما يَنْبُتُ البَقْلُ، ليسَ مِنَ الإنْسانِ شيءٌ إلّا يَبْلى، إلّا عَظْمًا واحِدًا وهو عَجْبُ الذَّنَبِ، ومِنْهُ يُرَكَّبُ الخَلْقُ يَومَ القِيامَةِ. صحيح البخاري برقم ٤٩٣٥ و ومسلم برقم ٢٩٥٥

وعند مسلم برقم 5366 في حديث النعمان بن سالم الطويل وفيه (ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ - أَوْ قَالَ يُنْزِلُ اللَّهُ - مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّلُّ أَوِ الظِّلُّ - نُعْمَانُ الشَّاكُّ - فَتَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَادُ النَّاسِ ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى ، فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ، ثُمَّ يُقَالُ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ )

بحسب الآيات المذكورة والأحاديث التي فصلت أكثر، فالبعث بكل بساطة يتم على طورين في ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: ينزل من السماء ماء من نوع أو آخر (الأحاديث ذكرت أنه يشبه ماء الرجال، وليس من المهم تحديده لأن العبرة بالنتيجة). ويستمر هذا الماء بالنزول على الأرض لمدة معينة ، لا نعرف كم طولها. لعل الآية رقم 25 من سورة الروم (وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ۚ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ) بعد ذكر مسألة المطر والإحياء، تشير إلى أن شيئا كذلك سيتم يوم القيامة، حيث تقوم السماء والأرض بأمره في الإمطار (من قبل السماء) وتوفير البيئة المناسبة (من قبل الأرض) للبعث حيث ذكر بعدها الخروج، وقبلها المطر والإحياء.

المرحلة الثانية: يبدأ الناس بالنبات من قبورهم تماما كما تنبت الأشجار وترتفع عن سطح الأرض، ينبتون ويبقون في أماكنهم ما شاء الله لهم أن يبقوا. وهذا النبات إما أن تكون بذرته الأساسية هي عجب الذنب (كما أشار حديث البخاري ومسلم) ، أو أي شيء يبقى من الجسد كما في حديث ابن مسعود. والاستنساخ حديثا يؤيد إمكانية نشوء إنسان (كجسد) من أية بقايا من جسده حتى شعره. وهاتان المرحلتان تمثلان الطور الجسماني.

المرحلة الثالثة: يأمر الله عز وجل إسرافيل بالنفخ في الصور النفخة الثانية (أو الثالثة) فتنتشر أرواح بني آدم حتى تتصل كل روح بجسدها وتعود الحياة للناس ولكنها حياة مختلفة فيوم القيامة تكون للناس خصائص تختلف عن خصائصهم في الدنيا (وهذا هو الطور الروحاني الذي يكتمل به الإنسان حيا عاقلا).

في الطور الأول، تكون البصمة الوراثية الجسمانية هي المسؤولة عن إعادة الإنسان إلى نفس جسمه السابق، وتحمل معها عودة ذاكرته ومعلوماته، وتحديد هويته بشكل قاطع. وفي الطور الثاني، ينفخ إسرافيل بالصور فتنتشر الأرواح التي لها هي أيضا بصماتها التي لا نعلم عنها شيئا، غير أن تطابق البصمتين الجسمانية والروحانية يعيد نفس الروح لنفس الجسد، ويعود الإنسان حيا من جديد:

1. قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ۚ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ (يونس 34)

2. أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (النمل 64)

3. أولَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (العنكبوت 19)

4. اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (الروم 11)

5. وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ۚ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (الروم 27)

تأكيد الآيات مرة بعد مرة على بداية الخلق وإعادته (يشمل أيضا بداية وعودة الكون بأجمعه وهذا له مكان آخر)، وعلى الربط بين ظاهرة نزول المطر وعودة الحياة للأرض في الدنيا، وتشبيه الحالة الدنوية بالحالة الأخروية وأن الخروج والنشور يشبه تماما عملية نزول المطر وانتشار الحشرات والكائنات وحتى النباتات التي تنبت بسببه عند توفر الأسباب الأرضية (لاحظ المطر ينزل في وقت مناسب، والأرض عندما تكون مناسبة يحصل الإنتاج وهو الربيع والأعشاب والأشجار. ولعل هذا يعيد للذاكرة أن قيام السماء والأرض بأمره في يوم القيامه هو – والله أعلم- نزول الماء في وقت مناسب وتقبل الأرض له فينبت الناس من ذلك، والله أعلم). كل ما في الأمر أن الآخرة عالم يختلف عن الدنيا اختلافا ليس هذا مكان شرحه، ولكن الصور متطابقة، ففي الآخرة فاكهة كما في الدنيا، وفيها أنهار، وماء وعسل، ولبن، وغير ذلك، لكنها لا تحمل من نظيراتها في الدنيا إلا الأسماء.

إن البعث يوم القيامة بطوريه المذكورين، كان قد حصل لآدم عليه السلام فهو الذي خلقه الله بيده كجسد ومرت عليه فترة طويله (لم يكن شيئا مذكورا) ثم نفخ الله فيه الروح فصار بشرا سويا عاقلا يتنفس ويأكل ويشرب ويعقل ويتحدث. ولو خرجت روح إنسان فلا قيمة لجسده، فالإنسان مكون من شقين: جثماني وروحاني، والتقاء الشقين في يوم القيامة مبني – والله أعلم – على بصمتين جسمانية وروحانية و تطابقهما هو الذي يقود الروح للجسد في ذلك اليوم.

جاء في مسند الإمام أحمد مرفوعًا: حَتَّى إِذَا كَانُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ دَخَلَتْ كُلُّ نَفْسٍ فِي جَسَدِهَا. وصححه الألباني (ت1420) صحيح الجامع، وهو صحيح

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كلُّ ابنِ آدمَ تأكلُه الأرضُ إلا عَجَبُ الذَّنَبِ، منه يَنْبُتُ ويُرسِلُ اللهُ ماءَ الحياةِ فيَنبُتونَ فيه نباتَ الخَضِرِ، حتى إذا أُخرِجتِ الأجسادُ أرسلَ اللهُ الأرواحَ وكان كلُّ رُوحٍ أَسْرَعَ إلى صاحبِه من الطَّرْفِ ثم يُنفَخُ في الصورِ فإذا هم قيامٌ ينظرون. الألباني (ت ١٤٢٠)، تخريج كتاب السنة ٨٩١ • إسناده جيد • أخرجه البخاري (٤٩٣٥)، ومسلم (٢٩٥٥) باختلاف يسير،، وأبو داود (٤٧٤٣)، والنسائي (٢٠٧٧)، وابن ماجه (٤٢٦٦)، وأحمد (٨٢٨٣) مختصراً، وابن أبي عاصم في «السنة» (٨٩١) واللفظ له.

وفي حديث طويل لأبي هريرة رضي الله عنه قال: ثمَّ يأمرُ اللهُ إسرافيلَ أن ينفُخَ نَفخةَ البعْثِ فينفُخَ نَفخةَ البعثِ فتخرُجُ الأرواحُ كأنَّها النَّحلُ قد ملأت ما بين السَّماءِ والأرضِ فيقولُ وعزَّتي وجلالي ليرجِعنَّ كلُّ روحٍ إلى جسدِه فتَدخُلُ الأرواحُ في الخَياشِيمِ، ثمَّ تَمشي في الأجسادِ مَشْيَ السُّمِّ في اللَّدِيغِ، ثمَّ تَنشَقُّ الأرضُ عنهم سِراعًا. البيهقي (ت ٤٥٨)، شعب الإيمان ١‏/٢٦٠

قال ابن القيم في كتابه الروح: تنْبت أَجْسَادهم فِي الْقُبُور، فَإِذا نفخ فِي الصُّور رجعت كل روح إِلَى جَسدهَا فَدخلت فِيهِ

لا غرابة إذن من تكرار ربط البعث والنشور والخروج من القبور في القرآن الكريم، بنزول المطر وخروج النبات والحشرات وحتى كائنات أخرى، فالصورة متطابقة بشكل مذهل، والله – سبحانه وتعالى – يوجه الخطاب للناس بأن من قدر أن يعيد النبات بعد نزول المطر إلى نفس وضعه السابق بناء على الأحماض الوراثية، قادر على أن يعيدكم أيها الناس يوم القيامة مع اختلاف نوع الماء والطبيعة الأرضية، ولكن الطريقة واحدة في الحالتين.

لو أخذنا التطابق المقصود في القرآن (كذلك الخروج، كذلك النشور، كذلك تخرجون) لوجدناه من عدة أوجه: الأول: في الدنيا ينزل ماء، وفي الآخرة ينزل ماء. الثاني: في الدنيا نزول الماء مشروط بوقت مناسب (الوسم مثلا)، وفي الآخره تقوم السماء بأمر الله في وقت مناسب. الثالث: في الدنيا النبات (والأحياء الأخرى) تكون مطمورة تحت الأرض فتنشق عنها الأرض وتخرج وكذلك البعث في الآخرة حيث تنشق الأرض ويخرج الناس من القبور (الأجداث). الرابع: الأرض لا تستجيب للمطر إلا عندما يكون الوقت مناسبا، وكذلك الأرض في الآخرة (تقوم الأرض بأمره) أي تستجيب للماء الأخروي. الخامس: في الدنيا البصمات أو الأحماض النووية تعيد النبات والأحياء إلى نفس طبيعتها الأصلية وعبرها تنتقل كمية كبيرة من الشفرات: اللون، الطول، الزهور، الثمار، الطعم، وفي الأحياء يضاف الصوت، والمعلومات الأخرى، وكذلك في الآخره تلك البصمات والأحماض كفيلة بإعادة الإنسان كما كان مرة ثانية، والفرق أن بصمة الإنسان خاصة به فهي هوية له لأنه محاسب، أما بصمات النبات والحيوان فهي متكررة، لأنها لن تحاسب يوم القيامة.

عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أسرف رجلٌ على نفسه، فلما حضره الموتُ أوصى بنيه فقال: إذا أنا مت، فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم اذرُوني في الريح في البحر، فوالله لئن قدَر عليَّ ربي ليعذبني عذابًا ما عذَّبه به أحدًا، قال: ففعلوا ذلك به، فقال للأرض: أدِّي ما أخذتِ، فإذا هو قائم، فقال له: ما حملكَ على ما صنعتَ؟ فقال: خشيتُك يا رب - أو قال: مخافتك - فغفر له بذلك))؛ رواه الشيخان واللفظ لمسلم.

لا مجال إذن للتهرب أو أخفاء بقايا الجسد حتى ينجو المرء من البعث يوم القيامة، ففي النهاية هو لم يخرج من الأرض، أو عن الكون في أبعد تصور، حتى لو تفرق في كل ناحية. والإنسان طوال عمره يتساقط منه بقايا من جسده كالأظافر والشعر وغيرها، وقد أثبت الاستنساخ أن أيا منها يمكن أن يقود للإنسان بأكمله. إن رب العالمين قد خلق فقدر ورسم خارطة الزمان كله، فالإنسان منذ خلقه قد رسم له أنه يعيش فترة من الزمن ثم يموت ثم يظل فترة من الزمن تطول أو تقصر في الحياة البرزخية، ثم يعود للحياة ثانية، حيث يحاسب على أفعاله في الدنيا، مما يجعل للخق معنى وحكمة، ويفصل بين الناس يوم القيامة، فيأخذ المظلوم حقه ممن ظلمه، ويأخذ المحسن مقابل إحسانه والمسئ مقابل إساءته في عدل إلهي أعظم ما يكون عدلا.

ما يظهر أن البصمات ستذهب أكثر من مجرد الربط بين الروح وجسدها يوم القيامة، حيث إن كل جزء من الإنسان يمكن أن يشهد له أو عليه يوم القيامة، بما في ذلك الأيدي والأرجل والجلود:

قال تعالي:

1. يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (النور: 24)

2. حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ (فصلت: 20-22)

3. الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (يس: 65)

نخلص من هذا المبحث بأن الأحماض الأمينية المتمكنة من كل أجزاء الجسم، فهي موجودة في جلده، وعظمه، ولحمه، وشعره، وكل خلية منه، بل حتى في دمعه ولعابه وعرقه فضلا عن دمه، هي ذاتها التي ستعيده مرة ثانية، وهذا أمر أسهل من الخلق الأول، الذي أسس لتلك الشفرات وتلك البصمات، وجعل كل إنسان له بصماته الخاصة، مهما طال الزمن. دعونا نتأمل في خلق الله العزيز الحكيم، الصانع المحكم لصناعته، والذي قد رسم خارطة الزمان كله بشقيه الدنيوي والأخروي، ألا يصح لنا أن نقول إن هذه البصمات المميزة الخاصة بكل إنسان هي عبثية لو لم تكن لها رسالة وأهمية جوهرية، تحمي خصوصية هذا الإنسان، وتضمن ارتباط الجسد بالروح، وارتباط الكل بالعمل؟؟


الفيديو التالي يعرض لصورة مقاربة لمقصود الآية: "يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر"

اللهم أعنا على ذلك اليوم ووفقنا للاستعداد لأهواله


تعليقات


  • Twitter
  • YouTube

©2022 by الموقع الشخصي: ناصر بن صالح الزايد

bottom of page