top of page

بحث حول تاريخ الأوبئة والطواعين التي ضربت البشرية

  • ناصر الزايد
  • 3 نوفمبر 2022
  • 27 دقائق قراءة

تاريخ التحديث: 4 نوفمبر 2022


بحث حول تاريخ الأوبئة والطواعين التي ضربت البشرية

أ.د. ناصر بن صالح الزايد

إصدار أولي


بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:


اطلعت على مجموعة من كتب التاريخ بغرض التعرف على تاريخ الأوبئة والطواعين في الوطن الإسلامي منذ عصر النبوة منها تاريخ ابن شاهين، وتاريخ ابن عذاري، وتاريخ إبراهيم بن عبد المحسن، وابن عيسى، والمقريزي وغيرهم كثير، إضافة إلى عدد كبير من رسائل الماجستير والدكتوراه وعدد أكبر من البحوث المتخصصة المنشورة. وخلصت إلى الزبدة التي سوف تراها في هذا البحث فيما يتخصص بالأوبئة، والتي أعتقد أنها تعرض بهذا الشمول لأول مرة. وباختصار فقد وجدت أن البلاد الإسلامية مرت بها خمسة أنواع من المتاعب تتكرر بشكل مستمر حتى نهاية فترة التدوين التي وصلت إليها. وهي: الأوبئة، والمجاعات (القحط)، والسيول الجارفة، والجراد، والنزاعات الحربية. وكل منها جدير بأن يلخص في مبحث مستقل لأعطاء صورة واضحة عن تكراره ودوره في زعزعة البنية الاجتماعية والسكانية.

تتجلى الحكمة الألهية البالغة في هذه الأوبئة من الآية الكريمة: (فأرسلنا عليهم الطوفان والجرادَ والقُمّلَ والضفادعَ والدمَ آياتٍ مفصلات فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين) الأعراف

وقد ورد عن مجاهد أن الطوفان هو الطاعون، وهو غير مهم لأن الموضوع واحد وهو الابتلاء بهذه الجوائح والكوارث لعل الناس يرجعون إلى ربهم.

ويقول تعالى في سورة التوبة: أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ.

وفي الأنعام: فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.


فهي إذن تذكرة للعباد إذا غفلوا، وتذكير لهم بالواحد القهار، حتى لا ينسوا ما هم مقبلون عليه. ومنها ما يكون على مستوى الفرد، ومنها ما يكون على مستوى الجماعة، ومنها ما يمس اثره الأرض كلها من اقصاها إلى أقصاها، كي يعلم الناس حجمهم الطبيعي فلا يتكبروا ولا يتغطرسوا.

أصيب معاذ بن جبل بالطاعون (طاعون عمواس)، فلما حضرته الوفاة، استقبل القبلة وجعل يردد: مرحبا بالموت مرحباً، زائرٌ جاء بعد غياب، وحبيبٌ وفَد على شوق ثم جعل ينظر الى السماء ويقول: اللهم إنكَ كنُتَ تعلم أنّي لم أكن أحبُّ الدنيا وطول البقاء فيها لغرسِ الأشجار وجري الانهار، ولكن لظمأ الهواجر، ومُكابدةِ الساعات، ومُزاحمة العلماء بالرُّكَب عند حلقِ الذكر. اللهم فتقَّبل منّي بخيرِ ما تتقَّبل بهِ نفساً مؤمنة ثم فاضت روحهُ الطاهرة بعيداً عن الأهل والعشيرة داعياً الى لله مهاجراً في سبيله ، ومات في فلسطين رضي الله عنه وكان ذلك في سنة 18 للهجرة ، وكان عمره 33 أو 38 سنة [1]


الأحاديث الواردة في الطاعون (وفضل الوفاة بسببه):

أولا: عنْ أبي هُرَيْرةَ، رضي الله عنه، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: الشُّهَدَاءُ خَمسَةٌ: المَطعُونُ، وَالمبْطُونُ، والغَرِيقُ، وَصَاحبُ الهَدْم وَالشَّهيدُ في سبيل اللَّه متفقٌ عليهِ.


ثانيا: عن أبي هريرة رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللَّه ﷺ: مَا تَعُدُّونَ الشهداءَ فِيكُم؟ قالُوا: يَا رسُولِ اللَّهِ مَنْ قُتِل في سَبيلِ اللَّه فَهُو شهيدٌ. قَالَ: إنَّ شُهَداءَ أُمَّتي إذًا لَقلِيلٌ،" قالُوا: فَمنْ يَا رسُول اللَّه؟ قَالَ: منْ قُتِل في سبيلِ اللَّه فهُو شَهيدٌ، ومنْ ماتَ في سَبيلِ اللَّه فهُو شهيدٌ، ومنْ ماتَ في الطَّاعُون فَهُو شَهيدٌ، ومنْ ماتَ في البطنِ فَهُو شَهيدٌ، والغَريقُ شَهيدٌ رواهُ مسلمٌ.


ثالثا: عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَنَاءُ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ .فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا الطَّعْنُ قَدْ عَرَفْنَاهُ، فَمَا الطَّاعُونُ؟ قَالَ: وَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْجِنِّ ، وَفِي كُلٍّ شُهَدَاءُ. رواه أحمد


رابعا: عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لأُمَّتِي ، وَوَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْجِنِّ ، غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الإِبِلِ تَخْرُجُ فِي الآباطِ وَالْمَرَاقِّ ، مَنْ مَاتَ فِيهِ مَاتَ شَهِيداً ، وَمَنْ أقَامَ فِيهِ كَانَ كَالمُرَابِطِ فِي سَبِيلِ الله ، وَمَنْ فَرَّ مِنْهُ ، كَانَ كَالفَارِّ مِنَ الزَّحْفِ. رواه الطبراني في الأوس، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع"


خامسا: عَنْ عَامِرِ بنِ سَعْدِ بنِ أبِي وقَّاصٍ، عن أبِيهِ، أنَّه سَمِعَهُ يَسْأَلُ أُسَامَةَ بنَ زَيْدٍ، مَاذَا سَمِعْتَ مِن رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الطَّاعُونِ؟ فَقالَ أُسَامَةُ: قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: الطَّاعُونُ رِجْسٌ أُرْسِلَ علَى طَائِفَةٍ مِن بَنِي إسْرَائِيلَ، أوْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ به بأَرْضٍ، فلا تَقْدَمُوا عليه، وإذَا وقَعَ بأَرْضٍ، وأَنْتُمْ بهَا فلا تَخْرُجُوا، فِرَارًا منه قالَ أبو النَّضْرِ: لا يُخْرِجْكُمْ إلَّا فِرَارًا منه. رواه البخاري

سادسا: عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: سألتُ رسول الله ﷺ عن الطاعون فأخبرني أنه: عذاب يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحدٍ يقعُ الطاعونُ فيمكث في بلده صابراً محتسباً، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد، رواه البخاري.

ملخص هذه الأحاديث:

1. من مات بالطاعون من المسلمين فهو شهيد

2. من عاش في وقته وصبر دون أن يفر فهو مثل المرابط في سبيل الله

3. أنه رحمة من الله للمؤمنين

4. أن من صبر على البقاء فيه ولم يمت فله مثل أجر الشهيد


قصص وحكايات تدور حول الأوبئة:

أحببت البداية بالقصص كونها شيقة والنفوس تحب وتميل إلى القصص أكثر من غيرها، وهي قد خرجت من رحم الأوبئة والطواعين التي سوف نستعرضها لاحقا.


أولا: رواية الرحالة جون لويس بوركهارت (صاحب كتاب: رحلات إلى شبه الجزيرة العربية الذي يقع في جزأين وألفه خلال زيارته للجزيرة العربية بدايات القرن التاسع عشر الميلادي)، وهذه القصة يرويها عندما كان في مدينة ينبع غربي المملكة حاليا، في العام 1815 م (يوافق 1230 هـ)، وكانت مذكراته بصورة مذكرات يومية، فيقول في مذكرات اليوم السابع والعشرين من شهر أبريل من ذلك العام (ص 198) [2]:

بينما كنت أنتظر في واحدة من المقاهي القريبة من الميناء، مرت علي ثلاث جنازات بفارق زمني قصير بين الواحدة والأخرى، وعندما عبرت عن دهشتي لذلك، عرفت أن كثيرا من الناس كانوا قد ماتوا خلال تلك الأيام القلائل، بسبب الشكوى من الحمى، عندما كنت في بدر، بلغني أن هناك حمى خبيثة منتشرة في ينبع، لكني لم ألق بالا لذلك التقرير. وخلال الفترة المتبقية من النهار شاهدت كثيرا من الجنازات الأخرى، لكن لم يدر بخلدي أية فكرة عن الاسباب إلى أن دخل الليل، وأويت إلى غرفتي في الدور العلوي، والتي كانت تطل على جزء كبير من ينبع، وهنا رحت أسمع في كل الاتجاهات أصواتا لا حصر لها تقطع القلب بسبب ولولتها وصياحها؛ وهذه الولولة وذلك الصياح الذي يفطر القلوب يكون مصاحبا لرحيل صديق أو قريب، وهنا عاجلتني فكرة راحت تلح على ذهني، مفادها أن ذلك ربما كان وباء الطاعون، حاولت دون جدوى طرد مخاوفي والتخلص منها، أو تصريفها عن طريق النوم، لكن الصياح المخيف أبقاني مستيقظا الليل بطوله. عندما نزلت في الصباح الباكر إلى صالة الخان، التي كان كثير من العرب يشربون فيها القهوة، وأوصلت إلى هؤلاء العرب مخاوفي، وما إن أتيت على ذكر كلمة الطاعون حتى بادروني بالاستعاذة، وراحوا يسألوني عما إذا كنت جاهلا بالحقيقة التي مفادها أن الله(سبحانه وتعالي) قد أبعد ذلك المرض عن أراضي الحجاز المقدسة؟ ... ربما كان حالي الصحي السيئ، والحمى المستمرة التي تملكتني، وكنت أؤدي عملي وأنا أعاني منها، ربما كان ذلك سببا كافيا لبقائي على قيد الحياة؛ والسبب في ذلك أني على الرغم من حرصي الشديد كنت معرضا للعدوى في كثير من الأحيان. كان شارع ينبع الرئيس عامرا بالمرضى، الذين يعانون من سكرات الموت، ويسالون الناس إحسانا؛ في فناء الخان الذي كنت أنزل فيها، كان هناك رجل عربي يعاني من سكرات الموت، وكان صاحب الخان هو الآخر قد توفيت أخته وابن من أبنائه. وراح يحكي لي وهو جالس على السجادة كيف توفي ولده في الليلة السابقة بين ذراعيه. كان حرص عبدي قد فاق احتياطاتي كلها إلى حد بعيد، وبعد أن افتقدت ذلك العبد لأيام عدة، رحت أتساءل ذات صباح عن اسباب تغيب ذلك الرجل الذي أبلغني أنه ذهب ليشارك في غسل جثث الموتى. كان الفقراء الذين وافتهم المنية أثناء الليل قد جرى نقلهم في الصباح في نعوش إلى شاطئ البحر حتى يجري غسلهم قبل الصلاة عليهم في المسجد. وكان عبدي قد رأي أن يشارك في الاجر من خلال القيام بهذا العمل الذي أوكل لعدد كبير من الحجاج الزنوج الذين تصادف وجودهم في ينبع. كنت أرغب أن يبقى ذلك العبد في المنزل، مستقبلا، في تلك الساعة كي يجهز لي طعام الإفطار، لكني لم أستطع منعه من الخروج في أوقات أخرى نظرا لأني كنت أستطيع الاستغناء عن خدماته في تلك الأوقات. يضاف إلى ذلك أن الإنسان بوسعه المرور في السوق دون أن يلمس أولئك المصابين بالعدوى أو حتى أولئك الذين يكونون على اتصال وثيق بهم. إلى أن يقول: ونظرا لأن الناس هنا اعتادوا على دفن الموتى خلال ساعات قلائل، فقد شاهدت أثناء مقامي في ينبع شخصين قيل إنهما ماتا ودفنا أحياء؛ فقد أوحت الغيبوبة التي دخل فيها هذان الشخصان إلى الناس في ذروة شدة أزمة الطاعون، بأنهما قد ماتا وفارقا الحياة ودفنهما الناس أحياء، وقد كشف واحد منهما عندما كان الناس يضعونه في القبر عن بعض علامات الحياة، وبالتالي أمكن إنقاذه، أما جثمان الشخص الآخر الذي رآه الناس عندما كانوا يفتحون القبر بعد أيام عدة من وفاته لدفن جثمان أحد اقاربه فكان غارقا في الدماء في منطقة اليدين والوجه كما وجد الكفن ممزقا بفعل المحاولات التي بذلها الميت وهو يحاول الخروج من القبر.

ويضيف: وبعد خمسة أيام أو ستة من وصولي بدأ يتزايد معدل الوفيات إلى أن أصبح معدل الوفيات اليومي يتردد بين أربعين نفسها وخمسين نفسا، الأمر الذي يعد معدلا خطيرا وسط عدد من السكان يقدر بما يتراوح بين خمسة آلاف وستة آلاف نسمة. وهنا أصيب سكان ينبع بموجة من الذعر والفزع، قلة قليلة من الناس كانوا يميلون إلى الصبر، أما السواد الأعظم من سكان ينبع فقد هربوا إلى العراء والخلاء، الأمر الذي أدى إلى أن أصبحت ينبع بلدا مهجورا، ومع ذلك طارد المرض الهاربين الذين كانوا يخيمون بالقرب من بعضهم البعض.


ثانيا: رواية المؤرخ عبدالعزيز الرشيد عن وباء الكويت في العام 1247 هـ:

حيث يذكر أن الكويت أصابها طاعون عظيم (يقصد طاعون أبو زويعة) قضى على كثير من أهلها حتى كادت تصبح منه قفرا يبابا لولا المسافرين من أهلها الذين لم يتراجعوا اليها الا بعد صفاء جوها من تلك الظلمة، رجعوا اليها ولكن وجدوا الطاعون قد فتك بكثير من نسائهم فاضطروا الى استقدام عوضهن من البلاد المجاورة كالزبير ونجد وغيرها وبذلك حفظوا البلد من العدم والفناء وفي اثناء تلك المعمعة اغلق اهل بيت في (الشرق) دارهم وادخروا فيها ما يكفيهم من طعام وشراب ولم يسمحوا لاحد بالدخول عليهم خوفاً من تسرب العدوى. فكان هذا البيت من جراء هذا التحفظ هو الوحيد في الكويت الذي لم يصب من يد الطاعون بضرر غير ان امرأة منهم حاولت الخروج لتنظر ما اصاب اهلها، فانزلوها بحبل من السطح ثم رجعت اليهم اخيراً فلم يفتحوا لها فرجعت ادراجها وقضي عليها كما قضي على غيرها.

وقد قال شاعر الكويت سعود الصقر قصيدة حزينة تصف الحال في ذلك الوقت:

شفنا المنازل مثل دوي الفضاعقب السكن صارت خلايا مخاريبواحسرتي ليمن طرا ما مـــضىعصر يذكرني الأهل والأصاحــــــيب

تشير المراجع التاريخية إلى أن المرض انتشر في الكويت بسبب زيارة بعض الكويتيين لأقاربهم في العراق الذين أصابهم الوباء لأغراض العزاء والمواساة فنقلوا المرض عندما عادوا للكويت.

وهناك قصة مشابهة تماما ذكرها جوزيف بيرن في كتابه (الموت الأسود) حدثت لبقال في لندن خلال وباء عام 1665 حيث انتشر الطاعون في كل مكان، فقام البقال بحبس نفسه وعائلته داخل منزله بعد أن امن نفسه بالطعام والشراب والدواء، فنجت هذه الأسرة كاملة من الموت.

ثالثا: قصة من طاعون سنة الرحمة (الانفلونزا الإسبانية) في العام 1337 هـ:

ذكر المؤرخ الشيخ إبراهيم بن عبيد آل عبدالمحسن في كتابه (تذكرة أولى النهى والعرفان بأيام الله الواحد الديان وذكر حوادث الزمان) القصة التالية (380):

وكان وقوع الوباء في أوائل هذه السنة، وكان عامًا في نجد والإحساء والعراق وجميع المدن على الخليج العربي، و استمر ثلاثة أشهر والعياذ بالله، وبسببه هجرت مساجد وخلت بيوت من السكان وهملت المواشي في البراري، فلا تجد لها راعياً ولا ساقياً. وقد ذكر لنا أن رجلاً من أهل الديانة والفضل موطنه بلد المذنب في القصيم، رأى في بداية هذا الطاعون في منامه كانه خارج البلد، فرأى فارسين خرجا من خلف أكمة هًناك سلاحهما ولباسهما وخيلهما البياض، فخاف لذلك خوفاً شديدًا وقام هارباً من سطوتهما يعلوه الفزع والاضطراب، غير أنه لم يستطع السعي لشدة الهول حتى أدركاه فسلما عليه وسكناه بقولهما لا بأس عليك قائلاً: لا نقصدك وإنما نريد أهل هذه القرية، فو الذي لا إله غيره لأن لم يتوبوا لنفعلن بهم كما فعل بقوم هود أو قوم لوط، ثم دخلا قرية المذنب فاستيقظ من رقدته، وكان له ورد من آخر الليل يصلي ما بدا له ثم يوقظ أهله ويذهب هو إلى المسجد، غير أنه هذه المرة عجز عن النهوض من منامه حتى أيقظه أهله وأقاموه، فتوضأ وذهب إلى المسجد بعدما طلع الفجر فحينما دخل المسجد وجد الناس في الصلاة إذ سقط رجل خلف الصف ثم سقط آخر من الصف، ثم فشا الوباء.


وقال أيضا:

وقد حدثني ثقة قال: مرض إمام مسجدنا ومؤذنه والواعظ الذي يرشد في المسجد، فكنت أؤذن وأصلي بهم وأعظ، وقد كان يصلي في المسجد الواحد في اليوم الذي هو اثنتا عشر ساعة على ما يربو عن مائة جنازة حتى تكسرت النعوش وجعلوا عوضًا عنها أبواباً وبسطًا تحمل بها الموتى، وهلك من بعض بيوت أهل القصيم قدر من ثلاثة أرباعها، ومرض أهل بيت كلهم غير واحد كان يتولى قضاء حوائجهم و يقوم بميانته وكانوا اثني عشر من الأنفس البشرية، فكان ذلك الصحيح يتولى رعايتهم عناية مًن الله في تسخيره لهم، يتولى شؤونهم ، وكان يقول إنني أنا مريض مثلهم غير أني لم أجد فرصة للنوم والمرض، ولقد كان المحسن من الناس من همه حفر الحفور والنقل إليها.

رابعا: قصة الخليفة عبدالملك بن مروان مع طاعون الجارف في العام 69 هـ:

ورد في وحي الرسالة لأحمد حسن الزيات (ج4 ص 332): ذكر صاحب التذكرة أن الطاعون (يقصد طاعون الجارف في العام 69 ه) فشا بدمشق، فهم عبدالملك ابن مروان بالفرار منه، فدخل عليه بعض الفضلاء وقال: بلغني يا أمير المؤمنين أن ثعلبا صادق أسدا على أن يجيره من السباع، فكان أبدا بين يديه. فظهر في يوم من الأيام عقاب في الجو فخافه الثعلب ووثب على ظهر الأسد، فانقض عليه العقاب واختطفه، فصاح الثعلب: يا أبا الحارث! العهد العهد! فقال الأسد: إنما عاهدتك على أن أحفظك من أهل الأرض، أما أهل السماء فلا قبل لي بهم. فلما سمع عبد الملك هذا المثل قال: والله لقد وعظتني، ثم أبى أن يفارق المدينة، وسلمه الله.

خامسا: قصة عبدالعزيز بن مروان

قال المدائني: وقع الطاعون (الجارف 69) بمصر في ولاية عبدالعزيز بن مروان، فخرج هاربا منه فنزل بقرية من الصعيد يقال لها (سكر) بضم السين وفتح الكاف، فقدم عليه حين نزلها رسول لعبد الملك، فقال له عبدالعزيز: ما اسمك؟ فقال: طالب بن مدرك، فقال: أوه، ما أراني راجعا إلى الفسطاط أبدا. ومات في تلك القرية. وقال فيه الشاعر الأموي:

أصبت يوم الصعيد من سكر مصيبة ليس لي بها قبل

لاحظ أن الخليفة عبدالملك نفسه لم يهرب بل صبر، ونجاه الله، في حين أن واليه عبدالعزيز هرب فلحقته منيته إلى حيث هرب.

وجاء في العقد الفريد (ج3 ص 191) أن أعرابيا خرج هاربا من الطاعون، فبينما هو سائر إذ لدغته أفعى فمات، فقال أبوه يرثيه:

طاف يبغي نجوة من هلاك فهـــــــلك

كــل شيء قــــــــاتل حين تلقى أجـــــــلك



تاريخ الحجر الصحي:


صورة لأشخاص في حجر صحي إبان وباء الأنفلونزا عام 1918



لا شك في أن أول من شرع للحجر الصحي – بحسب ما شهدناه في الأحاديث أعلاه – هو نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-. فقد شرع لمن أصاب الطاعون الأرض التي هو فيها بعدم مغادرتها ووعده بالشهادة إن مات، وأجر الشهيد ان بقي حيا، وأجر الرباط في سبيل الله طالما هو في تلك الأرض اثناء الوباء. كما نهى من عرف بوجوده في تلك الأرض أن يقدم عليها، بل ينجو بنفسه، وهذا ضمن أحد الضروريات الخمس ومنها: حفظ النفس.

غير أن ما يستغرب أنه لم يتم تحويل التوجيه النبوي إلى ممارسة منظمة من قبل الدول الإسلامية المتعاقبة، فقد عصفت الأوبئة بتلك الدول خلال القرون الإسلامية المتعاقبة، سواء في أرض العراق أو الشام أو مصر وشمال إفريقيا أو الأندلس أو أواسط اسيا وغيرها. ولعل هذا يلقي بظلال من التقصير الذي ما زال حتى اليوم قائما في جانب فهم النصوص الشرعية وتطبيقها على واقع الناس.

غير أن المراجع الأجنبية تشير إلى أن ابن سينا وهو طبيب عاش خلال أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس الهجري، أنه كان يطلب من بعض المرضى أن يحجروا أنفسهم لفترة أربعين يوما تسمى الأربعينية، حتى لا تنتقل العدوى إلى غيرهم. إلا أن هذا غير واضح ما إذا كان في زمن الأوبئة أو غيرها، علما بأن ابن سنا قد عاش فترة وبائين ضربا الأراضي الإسلامية بما فيها خراسان والري في العامين 401 و 423 للهجرة.

تضيف هذه المراجع أن أهل البندقية في إيطاليا والذين كانوا يستقبلون سفن التجار قد تناهى إلى مسامعهم الممارسات الإسلامية فكانوا يطلبون من هؤلاء التجار المكوث أربعين يوما في حجر صحي يطلقون عليه (الكارنتينه) quarantena ، و قد كان ذلك في القرن الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين ( أواخر القرن الثامن و أوائل القرن التاسع الهجريين). بحسب قاموس وبستر وماريام فإن هذه الكلمة هي ترجمة حرفية للأربعينية[3].

في أوروبا من ضمن من شرعن للحجر الصحي دولة هولندا خلال طاعون عام 1557 والذي ضرب دولا أخرى كذلك. الزمت السلطات المرضى بعدم الخروج من المنازل وعدم فتح النوافذ أو الأبواب ووضع لافتات على هذه المنازل، ويلزم من قام بزيارة أحد المرضى أن يمسك بعصا بيضاء طوال الأسبوعين التالية للزيارة حتى يبتعد الناس عنه.[4]

وبحسب الكتب التاريخية الكثيرة والبحوث المختصة التي قمت باستعراضها، فربما أن أول حجر صحي حقيقي مكتمل الشروط حدث في الأندلس في عهد مملكة بني الأحمر وتحديدا في مالقه في عام 844 هـ (1440 م) حيث أصابها طاعون فأمر الأمير بضرب حجر صحي عليها بحيث لا يدخلها أحد ولا يخرج منها أحد، وقد ظهر ذلك من خلال مقامة أبي عمر المالقي التي كتبها إلى الأمير في ذلك الوقت يطلب منه رفع الحجر عن مدينة مالقه [5]. و من المعلوم أن مملكة غرناطة كانت مركزا للحضارة الإسلامية، وتعلمت منها أوروبا نفسها الكثير من العلوم.

من جهتها، فقد سنت الإدارة العثمانية نظام الحجر الصحي كنظام معترف به قانونا منذ سنة 1837 م (1253 ه) حيث بدأت تفرض عقوبات على المخالفين لأنظمة الحجر الصحي وتشدد على ضرورة اتباعها بحذافيرها. وكانت تسمى المحجر (الكرنتينة أو كرنطينه أو كرنته) حيث كانت تكلف الدولة مبالغ طائلة من حيث رواتب العمال والأطباء ومصاريف التبخير والتطهير[6] . كانت المفتشيات الصحية تفرض الكشف على الحيوانات المجلوبة بالسفن وإعطاء شهادة صحية لكل حيوان خوفا من إمكانية نشر الوباء.

ولكن وردت رسائل كثيرة تشير إلى أن بعض البلدان قد طبقت الحجر الصحي قبل ذلك التاريخ ومنها بلاد المغرب العربي حيث أثبتت المكاتبات بين القنصليات وجود حجر صحي أثناء الأوبئة خاصة في حق الحجاج القادمين من الحجاز، وهناك عدة رسائل في العام 1230 هجرية على سبيل المثال ذكرها د. محمد البزاز في الأطروحة رقم 18 في كلية الآداب بالرباط. وكان الحجر لمدة أربعين يوما وكانوا يسمونه (الكرنطينة)، وهذا أقدم تاريخ وجدته حتى الآن يستخدم هذا المصطلح. للمعلومية كان المغرب العربي وقتها تحت سيطرة الدولة العلوية (الإسماعيلية)؟.

كانت القنصليات في المغرب ترفض قراءة الخطابات التي تصل إليها إلا بعد غمسها في الخل وذلك زمن الأوبئة حتى تطهرها.

وفي أسبانيا عندما كانت بالكامل تحت قبضة النصارى وتحديدا في عهد ملكها كارولوس الثالث، نجد ضمن مذكرات سفير المغرب إليها (محمد بن عثمان المكناسي) بغرض فكاك الأسرى الجزائريين في إسبانيا ولتجديد معاهدة الصلح بين الطرفين في سفرته عام 1779 م، حيث ذكر خبره مع الكرنطينة في مدينة سبتة كما يلي:

وقد ذكروا لنا قبل أن لابد لنا من أن نجعل الكرنطينة، ومعناها عندهم أن يقيم الذي يرد عليهم في موضع معروف عندهم معد لذلك أربعين يوما لا يخرج مه ولا يدخل إليه أحد، وسبب ذلك أنهم يتحرزون أن يدخل الوباء أرضهم وبلادهم لتوهمهم أنه في بلادنا أعاذنا الله منه، ولم يكن عندنا شيء من ذلك فيجعلون تلك الكرنطينة احتياطا وقطعا للشك، بحيث إذا كان في الوارد عليهم شيء من ذلك يظهر عليه في تلك المدة، وإن ظهر عليه شيء من ذلك فلا يدخل البلد وحين تكمل الكرنطينة ولم يظهر عليه شيء يأتي الطبيب ويقلب (يفحص) من هو في الكرنطينه، فإن أخبر بأنه لا بأس به يدخل المدينة ويتلاقى مع الناس وإلا فلا، ومن جملة قوانينهم في ذلك أنه إذا تلاقى أحد من أهل البلد مع الوارد الذي يرد عليهم من بلاد مشكوك فيه الوباء يجلس معه في الكرنطينة حتى يكملها، وبعد فراغه ينظره الطبيب، ولهم في ذلك تشديد كثير حتى إن الذي يأتي إلى صاحب الكرنطينة بالطعام يطرحه له من بعد ويحمله الآخر ولا يتماسان، وإن ورد عليهم بكتاب ذكروا أنهم يغمسونه في الخل بعد أن يقبضوه منه بقصبة وبعد ذلك يقرؤونه، ولهم في ذلك قواعد لا يكادون يخرمونها. وموضع الكرنطينة المذكورة خارج المدينة بين الأسوار. [7]

في نفس الفترة تقريبا، وتحديدا أيام الحملة الفرنسية على مصر في الفترة حول 1800 م حيث وقع الوباء في مصر، فيشير الجبرتي إلى أن الفرنسيين شرعوا في عمل الكرنتيلات. وهذا يبين أنه في تلك الفترة كان من السائد استخدام الحجر الصحي في كل مكان. غير أنه يستخدم في مصر للمرة الأولى كما ذكر الجبرتي أيضا عند قوله (لعدم الفتهم لهذه الأمور) يقصد الحجر.

وفي عام 1834 فرض محمد علي (مصر) حجراً صحياً بحرياً على السفن التركية، فلم يدخل الطاعون مصر، وبعد ذلك، وللتعامل مع مشكلة الأفراد والبضائع القادمة من موانئ الشرق الموبوءة بالطاعون، قام بتأسيس مستشفى للأمراض المعدية بدمياط، وعلى الرغم من احتياطات الحجر الصحي التي اتخذت، دخل الطاعون الموانئ المصرية الواقعة على البحر الأبيض المتوسط، وضرب محمد علي كردونا صحياً وقامت الشرطة والجيش بحبس ضحايا الطاعون في مستشفيات الأمراض المعدية وحرق متعلقاتهم الشخصية، وأخذت الحالات الاجتماعية في الاعتبار، فأهالي الاسكندرية من الطبقة المتوسطة أو العليا الذين يشتبه في مرض أحد أفراد أسرهم كان يتم ترحيلهم مع عزل أهل البيت، وفي المقابل كان يتم تجميع أسر الطبقات الفقيرة بالكامل المشتبه في إصابة أحد أفرادها بالطاعون ليلاً ونقلها إلى مراكز الحجر الصحي على حافة المدينة، وكان الرصاص يطلق على الفور على أرباب الأسر الذين لم يقوموا بالإبلاغ عن مرض أحد أفراد الأسرة بالطاعون وغضب أهالي الاسكندرية من مفهوم النظام الذي طبقه محمد علي عندما ظهر الأطباء الغربيون وكأنهم يأمرون الأطباء المسلمين بفعل أشياء تتنافى مع الشريعة الإسلامية، واعترضت مجموعات من الأهالي سبيل الجنود الذين كانوا يأخذون الناس تحت جنح الظلام وكانت النتيجة قتل بعض الأفراد رمياً بالرصاص مما روع كل أهالي المناطق المحيطة، وتم تجميع المزيد من ضحايا الطاعون وأسرهم، وبدأت بعض الأسر وكنتيجة لتلك الإجراءات بحفر مقابر لموتاهم في ساحات دورهم أو ترك الجثة في أحد الشوارع البعيدة بحيث لا يمكن التعرف إليها وبذلك يجنبون الأسرة العقاب، وفي النهاية لم يأت تطبيق هذا النظام بالنتائج المرجوة.[8]



ملخص سريع بـأهم الأوبئة العالمية:

باستعراض سريع على كتب التاريخ وخاصة ما يتعلق بعرض الأوبئة التي فتكت بالبشرية على مر العصور، اتضح لي بان البشر كانوا في صراع لم يتوقف منذ فجر تاريخهم المدون مع أوبئة لا تتوقف، تختلف في أسبابها ومظاهرها وتتفق في كثرة ضحاياها. وقد تمكنت من رصد حوالي 180 وباء، منها ما يبلغ ضحاياه عشرات الملايين ومنها ما يبلغون أقل أو أكثر، ومنها ما ينحصر في إقليم أو منطقه ومنها ما يشمل معظم أرجاء الأرض المعروفة في وقت الوباء. وبالرغم من أن المسح السريع للوثائق والمراجع والمصادر أظهر التكرار الشديد للأوبئة التي مرت بالمنطقة العربية (الإسلامية) والعالم، إلا أن هناك عدة أوبئة فتكت بالبشرية بصورة لم يسبق لها مثيل. لن أهتم كثيرا بنوع الفيروس الذي أصاب الناس، فالموضوع هو في النهاية مرض وبائي أو طاعون فتاك، يكاد يقتل كل من تعرض له. وبشكل عام فإن هذه الأوبئة رصدت على أنها فتاكة وشديدة فقط لأن المؤرخين سجلوها ورصدوها ويبدو أن هناك الكثير من الأوبئة لا تقل فتكا، ولكنها ضاعت في دهاليز التاريخ، ولكن سجلت معلومات مبدئية عنها كتاريخها وبعض الأماكن التي وقعت فيها. كما يلاحظ بان هناك فترات طويلة من الزمن تعرضت لقليل من الرصد من قبل الأوروبيين في حين كان المؤرخون المسلمون يسجلون كل صغيرة وكبيرة في تاريخهم ومنها الأوبئة والمجاعات، ولكن التفاصيل تشح أحيانا. على سبيل المثال خلال حوالي ألف سنة امتدت من 628 م إلى حدود 1550 ميلادية اي ما يقارب ألف سنة تمثل الفترة ( 6 هجرية حيث وقع طاعون شيرويه، إلى قرابة 1000 من الهجرة حيث وقع طاعون المكسيك، عندما بدأت دفة القوة السياسية تنتقل تدريجيا إلى أوروبا) خلال هذه الفترة جميعها تكاد تكون أخبار الأوبئة المرصودة هي من قبل المؤرخين المسلمين فحسب.

وهنا عرض بأبرز الأوبئة، علما بأن ما ترك ربما يكون أخطر منها ولكن بسبب تقصير كتب التاريخ برزت بعض الأوبئة بشكل أوضح.



الأول: طاعون أثينا (430 سنة قبل الميلاد)

بدأ في أثيوبيا ثم مصر ثم مملكة فارس حتى وصل أثينا. كانت الجثث تتراكم فوق بعضها والعدوى تنتشر بين الناس حتى يئس الناس من الحياة، يقال إنه أهلك معظم أهل أثينا. تقدر الروايات الأوروبية بأنه قتل منها من 75,000 إلى 100,000، وكان الناس يموتون في قطعان كالماشية، وقلما ينجو من اصيب بالوباء.


الثاني: طاعون جستنيان 541 م

وقد أطلق عليه هذا الاسم بسبب ظهوره في وقت الامبراطور جستنيان الأول، إمبراطور الدولة الرومانية أو ما يسمى بالإمبراطورية البيزنطية وعاصمتها القسطنطينية (اسطنبول حاليا). ترجح الروايات بدايته من مصر، ثم انتشر بفضل التواصل التجاري مع القسطنطينية عن طريق السفن ووصل إلى عاصمة الامبراطورية. كان هذا الطاعون يقتل ما يزيد عن 10,000 آلاف شخصا يوميا في القسطنطينية وحدها. انتشر الوباء وشمل ضفاف البحر الأبيض المتوسط بما في ذلك مناطق الشام، ودخل أوروبا أيضا حتى وصل إلى الدانمارك وإيرلاندا، وامتد إلى شمال شرق آسيا. وتشير بعض الوثائق لكتاب إيرانيين إلى أن هذا الوباء قد دخل الأراضي الفارسية في تلك الحقبة. فيصح إذن أن نقول إن هذا الوباء كان عالميا في حدود العالم في تلك الأيام.


الثالث: طاعون عمواس في السنة 18 من الهجرة

تأتي أهمية الحديث عن طاعون عمواس كونه حصد ما يقدر بـ 25 ألفا من المسلمين أكثرهم من الصحابة الكرام، وسجلت فيه مواقف جدير بنا أن نتوقف عندها لأهميتها في الجوانب التشريعية حول الطاعون. فقد وقع طاعون عمواس في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في السنة 18 من الهجرة، وقد علم عمر بذلك عندما كان في طريقه إلى الشام بالقرب من مدينة سرغ (من مدن الشام). وتفصيل ذلك في حديث ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خرج إلى الشام حتى إذا كان بِسَرْغٍ، لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام، قال ابن عباس فقال لي عمر: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعوتهم، فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا، فقال: بعضهم خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رَسُول اللَّهِ ﷺ ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء. فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي الأنصار، فدعوتهم، فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم، فلم يختلف عليه منهم رجلان؛ فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة بن الجراح رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أفراراً من قدر اللَّه! فقال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! وكان عمر يكره خلافه؛ نعم نفر من قدر اللَّه إلى قدر اللَّه؛ أرأيت لو كان لك إبل فهبطت وادياً له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر اللَّه، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر اللَّه قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وكان متغيباً في بعض حاجته، فقال: إن عندي من هذا علماً: سمعت رَسُول اللَّهِ ﷺ يقول: (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه) فحمد اللَّه تعالى عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وانصرف. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ثم أراد عمر إخراج ابي عبيدة من الطاعون لشده حبه له وأهميته للأمة في ذلك الوقت، فأرسل إليه رسولا يطلبه إلى المدينة لمناقشة أمر ما معه، غير أن أبا عبيدة أدرك نية الفاروق فرد عليه: قد عرفت حاجتك وإني في جند من المسلمين لا أجد في نفسي رغبة عنهم، ولست أريد فراقهم، حتى يقضي الله في وفيهم أمره وقضاءه.

روي عن أبي عبيدة رضي الله عنه أنه قال: اللهم نصيبك في آل عبيدة، فخرجت في خنصره بثرة. ثم خطب في الناس وقال: يا أيها الناس إن هذا الوجع رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسال الله تعالى أن يقسم له من هذا الطاعون حظه، فطعن ومات بسببه.

بعد أبي عبيدة خلفه الصحابي الجليل معاذ بن جبل (أعلم أمة محمد بالحلال والحرام) رضي الله عنه، وقام خطيبا في الناس وقال مثل قول ابي عبيدة، فطعن ابنه عبدالرحمن، ثم دعا لنفسه وطعن في راحته وأخذ ينظر إليها ويقبل ظهر كفه ويقول (ما أحب أن لي بما فيك شيئا من الدنيا). ومات رضي الله عنه بعد ذلك.

وقد كثر الموت في الصحابة والتابعين حتى سماه بعضهم رجزا، فنهاهم معاذ بن جبل – رضي الله عنه – عن ذلك.

خلف الناس بعد ذلك عمرو بن العاص – رضي الله عنه – الذي ما أن وصل الشام حتى خطب في الناس قائلا: إذا وقع هذا الوجع فإني أرى أنه يشتعل اشتعال النار فتحيلوا منه في الجبال، فخرج عمرو بن العاص وخرج الناس معه، فرفعه الله عنهم. ولما علم عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بفعله لم ينكره. فعمرو بن العاص لم يفر، بل أخرج جميع الناس معه إلى مكان مرتفع حيث الهواء النظيف فارتفع الطاعون [9].

ومن ضمن الموتى بطاعون عمواس أيضا، وتدل على قسوة ذلك الطاعون، خمسة من أبناء الشاعر الشهير خويلد بن خالد الهذلي، أسلم في وقت النبي (ص) ولم يره، رثى بنيه وكان من ضمن رثائه البيت المشهور:

والنــفـس راغبة إذا رغبـتها وإذا تـــرد إلــى قــــليـل تـقـنـــع

ضمن قصيدة جميلة مبدؤها:

أمن المنون وريبها تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع




الرابع: طاعون الجارف في العراق وغيرها 69 هـ (688 م)

وقع طاعون الجارف في العراق و مست آثاره المناطق الأخرى وسمي طاعون الجارف بسبب كثرة من جرفهم من الناس للموت، على سبيل المثال توفي لأنس بن مالك ثلاثة وسبعون ابنا (يشمل الأحفاد فيما يبدو)، ولعبدالرحمن بن ابي بكر 40 ابنا. وروى النووي أنه مات في اليوم الواحد 70 ألفا. وممن مات فيه النحوي الشهير أبو الأسود الدؤلي.


الخامس: طاعون غراب: 128 هـ 745 م

عم الأندلس (أسبانيا)، وما تبقى من الإمبراطورية البيزنطية، و غرب آسيا، وافريقيا، و في العراق (في العراق كان اسمه طاعون غراب) وربما كان قبل ذلك ببضعة أشهر. يقول ابن عذاري كاد الخلق أن ينقرضوا من هذا الوباء[10] . وقد تكرر هذا الطاعون في العام 131 ه (748 م) مرة أخرى وعم العراق والشام ومناطق أخرى وحصد معه خلقا لا يحصون.


السادس: طاعون الموت الأسود (الفناء الكبير) 749 هـ (1347 م)

بدايته في العام السابق 748 هـ، وشمل مصر والشام والعراق والحجاز والأندلس، وتركيا، وأوروبا، وآسيا وأفريقيا والهند، ويعتقد بأنه بدأ من الصين حيث ضرب محافظة موبيي وأفنى 90% من أهلها. یقول المقریزي حول ذلك: "لم یكن هذا الوباء كما عهد في إقلیم دون إقلیم، بل عم أقالیم الأرض شرق وغربا وشمالا وجنوبا جمیع أجناس بني آدم وغیرهم من حیتان البحر وطیر السماء وقد بدا هذا الطاعون من أواسط آسیا حالیا وبالتحدید من بلاد القان- المعروفة الآن بالصین ثم انتشر هذا إلى جمیع أرجاء العالم". وسماه الأوروبيون "الموت الأسود" وسمته الروايات الإسلامية "الفناء الكبير" أو "الطاعون الأعظم" واستمر لعدة سنوات، وتقول الروايات الأوروبية بأنه حصد ما بين 30-60% من السكان، وفي بعض المناطق وصل العدد إلى 95%. بلغ عدد الموتى في القاهرة لوحدها في شهر واحد أكثر من 900 الف وانتشر القحط والجوع، وفتك الطاعون بالحيوانات وخلت كثير من الديار وصارت أمتعتهم ملقاة لا تجد من يأخذها. مجموع ضحاياه حول العالم قدرته بعض المصادر بـ 276 مليون نفس.

وفيه يروي المؤرخ المصري جمال الدين بن تغري بردي فيقول: "كان فيها الوباء الذي لم يقع مثله في سالف الأعصار، فإنه كان ابتدأ بأرض مصر آخر أيام التخضير في فصل الخريف في أثناء سنة ثمان وأربعين، فما أهلَّ المحرّم سنة تسع وأربعين حتى اشتهر واشتدّ بديار مصر في شعبان ورمضان وشوّال، وارتفع في نصف ذي القعدة، فكان يموت بالقاهرة ومصر ما بين عشرة آلاف إلى خمسة عشر ألف نفس إلى عشرين ألف نفسٍ في كلِّ يوم، وعملت الناس التوابيت والدّكك لتغسيل الموتى للسبيل بغير أجرة، وحُمل أكثر الموتى على ألواح الخشب وعلى السلالم والأبواب، وحُفرت الحفائر وأُلقِيت فيها الموتى، فكانت الحفيرة يُدفن فيها الثلاثون والأربعون وأكثر، وكان الموتُ بالطّاعون، يبصقُ الإنسان دمًا ثمّ يصيح ويموت، ومع هذا عمّ الغلاء الدنيا جميعها، ولم يكن هذا الوباء كما عهد في إقليم دون إقليم، بل عمّ أقاليم الأرض شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا جميع أجناس بني آدم وغيرهم، حتى حيتان البحر وطير السماء ووحش البرّ". [11]

في الأندلس عم الطاعون جميع الأرجاء سوى مدينة غرناطة، وحصد هذا الطاعون عددا كبيرا من خيرة علماء المسلمين منهم ابن الزرقالة، وأبو القاسم اللخمي، وسعد التجيبي، وابن فرتون، وابن برطال، والقونجي، وابن لؤلؤة، وغيرهم كثير. فعن وفاة ابن فرتون تقول كتب التاريخ: نفث دم الطاعون، صلى الجمعة ظهرا وقد لزم الفراش ومات مستقبل القبلة على اتم وجوه التأهب، سابع شوال من عام 750 ه. [12]

يتحدث ابن خلدون في وصفه لهذا الطاعون فیقول: " هذا إلى ما نزل بالعمران شرقا وغربا في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف الذي تحیف الأمم وذهب بأهل الجیل وطوى كثیرا من محاسن العمران ومحاها وجاء للدول على حین هرمها وبلوغ الغایة من مداها فقلص من ظلالها وفل من حدها وأوهن من سلطانها وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها وانتقص عمران الأرض بانتقاص البشر فخربت الأمصار والمصانع ودرست السبل والمعالم وخلت الدیار والمنازل وضعفت الدول والقبائل وتبدل الساكن وكأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب لكن على نسبته ومقدار عمرانه فكأنما تبدل الخلق من أصله وتحول العالم بأسره وكأنه خلق جدید" [13]


السابع: طاعون الرملة (795 هـ 1393 م):

أطلقت عليه اسم طاعون الرملة بسبب بدايته منها وكثرة القتلى فيها وهي في فلسطين، حيث تفشى طاعون شديد في بلاد الشام وكان أشده في غزة والرملة وحوران ودمشق وبعلبك وحماة، وكان يموت في حلب لوحدها 500 نفس كل يوم واستمر حتى نهاية العام وقدر العدد الإجمالي لضحاياه 360 ألف نفس معظمهم من الأطفال. وامتد الوباء ووصل إلى مصر. الغريب أنه قبل ذلك بعام واحد كان هناك وباء فتاك قضى على الحيوانات وخاصة الأبقار حيث نفق عدد كبير منها أكثره في مصر. فهل انتقل بعد ذلك إلى الإنسان؟

هذا وقد تكرر الوباء بعد ثلاثة عشر سنة حيث وقع طاعون شامل في بلاد الصعيد في مصر، وخلت عدة بلدات من الناس وأحصي من مات في أسيوط وحدها فكانوا عشرة آلاف وشمل كذلك الحيوانات (ربما يقصد بذلك الابقار)، ووصل معدل الوفيات التي يتم تسجيلها في الديوان يوميا 250 نفسا.


الثامن: طاعون الشام (825-826 هـ 1422-1423 م):

أطلقت عليه طاعون الشام بسبب كثرة القتلى في كل من حلب ودمشق، انتشر الوباء في مدن الشام مثل حلب وحمص وحماة وهلك به من الخلق من لا يحصى عددا، حتى خلت حلب من معظم أهلها. ثم انتشر الوباء بعد ذلك في دمشق وغزة ومصر وأخلى الدور من سكانها وقال المقريزي إن عدة من مات في دمشق وحدها 15 الف نفس وسجل ديوان دمشق 80 ألف نفس، وكان يموت في غزة كل يوم أكثر من 100 نفس، وكان يموت في القدس يوميا 30 نفسا، وفي الرملة 100 نفس يوميا.


التاسع: طاعون الوحوش 833 هـ (1430 م):

أطلقت عليه هذا الاسم بسبب سيظهر في وصفه التالي من كتب التاريخ. فقد فشا الطاعون في دمشق وحمص ومات خلق كثير وارتفعت الأسعار واشتد الغلاء ثم امتد إلى حماة وبوادي الشام، كما انتشر الوباء وعم مدن الوجه البحري والقاهرة وقضى على الطوائف بأكملها المقيمة في مصر، وقضى هذا الوباء على الأسماك في الأنهار والبحيرات والتماسيح والذئاب والظباء في الصحراء المصرية، وأما البشر فقد بلغ عدد ضحاياه 100 ألف شخص على أقل تقدير.

كان هذا الوباء قد أصاب بلاد الشام قبل اكثر من سنة قبل ذلك وتزايدت أعداد الموتى وأصاب الخيول ذلك المرض حتى كثر نفوق هذه الحيوانات، انتقل الوباء وشمل مصر بعد ذلك كما ذكرنا ولكنه في طريقه عصف بفلسطين كغزة والرملة وما حولها وفتك في أهلهما.


العاشر: الطاعون الكبير 1216 هـ (1800 م)

ربما تعود بدايات هذا الطاعون إلى 1798 واستمر حتى نهاية 1801 م، حيث ضرب بغداد واستمر لثلاثة أعوام متتالية بمعدل يومي يصل إلى 70 شخصا، ومات الكثير من الأبقار أيضا، وبحسب المراجع الأجنبية فقد أصاب هذا الطاعون أيضا الإمبراطورية العثمانية ومصر وأسبانيا. ضرب هذا الطاعون بلاد المغرب العربي بقسوة حيث بلغت ضحاياه في فاس فوق 65,000 وفي مراكش 50,000 وفي الرباط فوق 20,000 نفس. وحتى نتصور قسوة هذا الطاعون نذكر قصة الهاشمي الدكالي، عامل مدينة دكالة المغربية، حيث مات هو وولده الطاهر وأخوه محمد بخدمه وعياله ونسائه وبقيت داره خالية. [14] وباختصار فتقدر الروايات أن هذا الطاعون قد اباد ما بين ثلث ونصف سكان المغرب.

تزامن هذا الطاعون مع الحملة الفرنسية للمشرق العربي حيث سببت متاعب للجيش الفرنسي خاصة أثناء حصار مدينة عكا وانتشاره بين جنوده مما كان له دور في فشله في احتلال المدينة وقرر ترك الشام والعودة إلى مصر. ضرب هذا الطاعون مصر أيضا وصادف وجود الحملة الفرنسية فيها، وحصد في مصر وحدها 200 ألف شخصا.


الحادي عشر: الانفلونزا الإسبانية (1336-1337 هـ) 1918 م

ضربت الانفلونزا الإسبانية دول أوروبا وأسبانا على وجه الخصوص ومناطق أخرى من العالم وقدر عدد الوفيات بأكثر من 100 مليون نفس. كما بلغ عدد ضحاياه في أمريكا وحدها خلال سنتين ما يقارب 700 ألف من بينهم جد الرئيس الأمريكي الحالي فريدريك ترامب.

ووصل الوباء إلى الجزيرة العربية حيث أصاب مناطق واسعة منها وسميت السنة (سنة الرحمة) وهلك بسببه ألوف منهم الابن الأكبر للملك عبدالعزيز (الأمير تركي رحمه الله) ولم يكن الوحيد من أبناء الملك عبدالعزيز الذي مات بهذا الطاعون.


الثاني عشر: الإنفلونزا الآسيوية (1378 ه – 1957 م)

الانفلونزا الآسوية ضربت بعض مناطق العالم وقتلت ما يزيد عن 2 مليون إنسان، منهم فوق 70 الف في الولايات المتحدة، و 14 الفا في بريطانيا، ومعظم ضحاياه كانوا في أمريكا اللاتينية، وقد ساعدت المضادات الحيوية وجودة الخدمات الصحية على تقليل الضحايا بشكل كبير. وقد انتشر بين أطفال المدارس ولكن لم يكن قاتلا لهؤلاء الأطفال. (ويكيبيديا)


الثالث عشر: طاعون أنفلونزا هونج كونج (1388 هـ 1968 م)

ضربت الانفلونزا المسمات انفلونزا هونج كونج وقتلت فوق مليون إنسان حول العالم، انتشر سريعا وشمل مناطق واسعة في الهند والفلبين وشمال استراليا وأوروبا، كما وصل أمريكا واليابان وفيتنام وأفريقيا وأمريكا الجنوبية. تكرر هذا الوباء في موجات متوالية، حيث ظهر كذلك في الأعوام 1969، 1970 و 1972 م (ويكيبيديا).




ملحوظات عامة على الأوبئة:

الملحوظة الأولى: تكاد جميع الأوبئة أن ترتبط بموجة قحط وجوع وارتفاع حاد بالأسعار خاصة أسعار المواد الأساسية، ويعود ذلك إلى كثرة الوفيات في المزارعين والمنتجين بشكل عام.


الملحوظة الثانية: يصيب الوباء غالبا البشر فقط، ولكن هناك أوبئة سجلت وقضت على الحيوانات فقط كالإبل والبقر والخيول وحتى الأسماك. وهناك أوبئة فتكت بالبشر ونتج عن ذلك القحط المذكور ما أدى إلى نفوق أعداد كبيرة من المواشي والحيوانات. ولكن من المؤكد أن بعض الأوبئة كانت بالفعل تفتك بالإنسان والحيوان على حد سواء، والغريب هو وصولها إلى البحيرات والأنهار بحيث تمت إبادة الكثير من الثروة السمكية والتماسيح وأحيانا الصحراء حيث تقتل الذئاب والصيد.


الملحوظة الثالثة: للوباء فترة ينتشر فيها ويفتك بمن يصل إليه، ثم يختفي من تلقاء نفسه، ولا يعود مرة ثانية، إنما يأتي وباء آخر جديد. ولكن بعض الأوبئة تكررت لأسباب غير معروفة، وكانت تستمر لعدة سنوات على شكل موجات كلما اختفت موجة ظهرت أختها.



ارتباط الوباء بالجوع:

معظم الأوبئة الجارفة التي مرت على الأراضي الإسلامية ارتبطت بالجوع الشديد بسبب موت الفلاحين والخبازين وأصحاب المهن والحرف المختلفة، ولعله يكفينا أن برز مثالا لذلك فيما يلي:

ذكر المقريزي في كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك عن طاعون ضرب مصر في العام 592 هـ (ج1ص243) -دار الكتب العلمية- ما نصه " وكثر الصرعى من الأموات على الطرقات وزادت عدتهم بمصر والقاهرة في كل يوم عن مائتي نفس، وأكثرهم يموت جوعا، وانتهى القمح إلى 180 دينارا لمائة أردب، وعمد الضعفاء إلى شراء الجرار وعدوا إلى البحر وترددوا إليه (ربما يقصد نهر النيل) ليستقوا منه الجرار ويبيعونها بثمن درهم للجرة، وقد لا يجدون من يشتريها منهم. ... وزاد السعر، وضاق الخناق، وهلك الضعفاء، وفشا الموت، وأكثره في الجياع، وصارت الأقفاص التي يحمل فيها الطعام يحمل فيها الأموات، ولا يقدر على النعوش إلا بالنوبة، وامتدت الأيدي إلى خطف ألواح الخبز – ويضرب من ينهب، ويشج رأسه، ويسال دمه، ولا ينتهي ولا يرمي ما في يده مما خطفه، وعدم القمح إلا من جهة الشريف ابن ثعلب".

ويضيف الطبيب عبداللطيف البغدادي قائلا (محمد العاملي، الجمعية المغربية للبحث التاريخي، 2002، ص 159): "ولما اشتد الجوع بالفقراء أكلوا الميتات والجيف والكلاب، ثم تعدوا ذلك إلى أن أكلوا صغار بني آدم، فقد كان يعثر على الفقراء ومعهم صغار مطبوخين جاهزين للأكل. ومن بين ما ذكر من القصص التي وقف عليها بنفسه أو سمعها من الثقات: رأيت صغيرا مشويا في قفة وقد أحضر إلى دار الوالي ومعه رجل وامرأة زعم الناس أنهما أبواه، فأمر بإحراقهما"


لقد أدى الموت الجماعي إلى نقصان عدد السكان في المدن والقرى على حد سواء. وبإمكاننا تقدير حجم الخسارة في المدن المصرية من خلال الروايات التي تشير إلى أن الخراب أصاب أكثر المواضع عمارة في القاهرة التي خلت تقريبا من سكانها، وأن أغلب أحيائها لم يبق فيها بيت مسكون أصلا. وبلغ حجم الكارثة في الإسكندرية أن صلى الإمام يوم الجمعة في مسجد واحد على سبع مائة جنازة. وأن تركة واحدة انتقلت في نفس المدينة في مدة شهر واحد إلى أربعة عشر وارثا.

وبالنسبة للريف المصري فالقرى التي كانت تشمل زهاء عشرة آلاف نسمة أصبحت فارغة، والقرية التي كان فيها خمسمائة نفس لم يتأخر بها سوى اثنين أو ثلاثة، وذكر البغدادي أن المسافر كان يمر بالبلدة ويجد البيوت مفتوحة، وأهلها موتى متقابلين، وربما وجد في البيت أثاثه وليس هناك من يأخذه (المرجع السابق)





طاعون كورونا (كوفيد 19): (تحت التحديث)

يعود هذا الطاعون إلى فيروس أطلق عليه اسم كوفيد 19 COVID 19- وهو يسبب متلازمة تنفسية حادة، مما يسبب الحمى العالية والسعال وصعوبة التنفس. ومن أعراضه الأخرى آلام العضلات والتهاب الحلق والإسهال وأحيانا فقد حاسة الشم وربما الذوق أيضا. البعض اشتكى من آلام في اسفل البطن. وبينما يتعرض له البعض فلا يضره كثيرا، فإنه كثيرا من الأحيان يقتل الضحية في غضون عدة أيام. وقد ظهر أول ما ظهر في مدينة ووهان Wuhan الصينية في ديسمبر 2019 م، وسرعان ما انتشر على طول الكرة الأرضية وعرضها بحيث لا تكاد دولة أن تخلو من قسوته، وما زال حتى كتابة هذه السطور ينتشر بسرعة فائقة حيث أطلقت منظمة الصحة العالمية مصطلح وباء على المرض بتاريخ 11 مارس 2020م.


انتشر الوباء حول العالم كما يبينه الجدول التالي، حيث ظل حبيس الصين لمدة 14 يوما تقريبا وبعدها خرج من الحدود الصينية ووصل أولا إلى تايلاند، وبعدها بيومين وصل إلى اليابان وهي دول قريبة من حدود الصين. في نهاية الأسبوع الثالث وصل إلى تايوان والولايات المتحدة. واستمر كذلك حيث وصل مع نهاية يناير إلى 19 دولة منها الإمارات العربية المتحدة. في شهر فبراير استكمل مسيرته وغطى 32 دولة أخرى منها مصر والبحرين وعمان ولبنان والكويت والجزائر. وأما في شهر مارس فقد تمكن من دخول عدة دول أخرى وصلت إلى 83 دولة منها المملكة العربية السعودية وقطر والمغرب وتونس والأردن وفلسطين والسودان وموريتانيا ومالي وليبيا وسوريا والصومال.

من الحكايات المهمة كيف كانت بدايات الوباء في بعض الدول؟ فبحسب القنوات الفضائية، في بريطانيا بدأ الوباء من المريض الذي صار يسمى المريض صفر. هذا المريض كان قبلها في منتجع تزلج في النمسا حيث عاد منها إلى بريطانيا ونشر العدوى إلى عائلته وإلى افراد آخرين في الحي حيث بدأت الأعداد بالارتفاع بعد ذلك.

في كوريا الجنوبية كانت الإصابات تحت السيطرة وكان عددها 30 إصابة فقط، إلا أن العدد تضاعف مائة مرة في غضون أيام بسبب ما صار يعرف بالمريضة 31 حيث كانت قد حضرت قداسين في كنيسة هناك قبل تأكيد إصابتها بالمرض مما أدى إلى تفشي المرض في العاصمة ومنها إلى غيرها.

في إيطاليا تفشى الوباء بعد المباراة التي سميت المباراة صفر، والتي عقدت في 19 فبراير 2020، حيث عقدت مباراة كرة قدم بين فريق أطلانطا الإيطالي وفلانسيا الإسباني في مدينة ميلانو حيث اعتبرت المباراة قنبلة بيولوجية حيث كان من ضمن الحضور مصابون بالمرض ما أدى إلى انتشاره بصورة جنونية في تلك المدينة أولا ثم إلى سواها من المدن.

الأردن لم يكن فيها إلا مصاب واحد فقط حتى منتصف مارس 2020، حيث أقيم حفل زفاف في مدينة إربد في الشمال وهو ما صار يعرف بعرس إربد حضره ما يربو على 400 شخص، لأنه تبين بعد ذلك أن والد العروس وأختها الذين قدما من استراليا وكندا لحضور المناسبة كانا يحملان الفيروس دون علمهما، حيث تفشى الوباء بسببهما في المدينة مما أدى إلى عزلها وإغلاقها لاحقا من قبل السلطات الأردنية.

ومع أنه يصعب أن يكون فعلا المريض صفر هو من نشر الوباء في بلد ما، حيث يجوز أن يكون هناك مرضى آخرون نقلوه بالتوازي دون أن يكون للفيروس مرور على المريض الصفري، إلا أنه يجدر الإشارة إلى أن السعودية لم تسجل حالات إصابة بالوباء حتى 3 مارس أي بعد أكثر من شهرين من بداية الوباء، حيث تم تسجيل الحالة الأولى لمريض قادم من إيران عن طريق البحرين لم يفصح عن رحلته لنقاط الحدود. بعد هذا المريض تسارع انتشار المرض في القطيف ثم في باقي المدن [15].


معلومات عن الفيروس:

فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19) يأتي بصورة كروية نصف قطرها تقريبا 0.13 مايكرومتر (لو وضعت هذه الفيروسات في صف فسوف نحتاج إلى حوالي 8 مليون منها للحصول على طول مقداره 1 مم). وللمعلومية فهذا الفيروس بهذه المقاسات هو صغير جدا ولذلك فيصح أن نعتبره على الأقل ذرة غبار، ولهذا فيمكنه البقاء معلقا في الهواء إذا كان ساكنا لفترة طويلة (عدة ساعات) قبل ان يصل إلى الأرض. مشكلة أخرى ترتبط بحجم الفيروس وهي أنه يمكنه التوغل في أعماق الرئتين بسبب صغر حجمه مما يسبب التهابا أشد – أعاذنا الله منه - [16]


الرسم التالي يعرض تنامي الإصابات لبعض الدول الأكثر تضررا منذ بداية الوباء في 31 ديسمبر الماضي وحتى يوم 21 مايو 2020:


تنامي حالات الوباء لدى بعض الدول ليست من ضمنها الولايات المتحدة (مصدر البيانات www.visualcapitalist.com)

جدول يبين الخط الزمني لإصابة الدول حول العالم (www.visualcapitalist.com )





جدول الأوبئة والطواعين بحسب التاريخ:

الجدول التالي يرصد بشكل سريع وملخص عن الأوبئة التي ضربت البشرية منذ أكثر من 400 سنة قبل الميلاد إلى اليوم. لم يتم إضافة بعض المراجع بسبب ضيق الوقت وسيتم ذلك في إصدار آخر إن شاء الله، ولكن جميع الكلمات المكتوبة منقولة إما نصا أو بتصرف بسيط من مصادر معتمدة.




والحمد لله على إتمام البحث، سائلا إياه أن يكتب لي أجره، وأن يفيد غيري في بحوث أوسع.

[1] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء [2] ترحال في الجزيرة العربية (يتضمن تاريخ مناطق الحجاز المقدسة عند المسلمين)، تأليف: جون لويس بوركهارت، ترجمة: صبري محمد حسن، الطبعة الأولى 2007، المركز القومي للترجمة [3] https://en.wikipedia.org/wiki/Quarantine [4] The Black Death, Joseph P. Byrne, 2004 [5] عيد صباح حمدان المناجعة، رسالة دكتوراه (المجاعات والأوبئة والأمراض والكوارث الطبيعية في الأندلس من الفتح إلى سقوط غرناطة)- 2014 م (جامعة مؤتة) الأردن. [6] آمال محمد المحجوب، مجلة البحوث التاريخية، المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية، ص 224، مجلد 33، عدد 2 (2006 م) [7] محمد بن عثمان المكناسي، الإكسير في فكاك الأسير، ص9-10 [8] شيلدون واتس (الأوبئة والتاريخ المرض والقوة والإمبريالية) [9] نصير بهجت فاضل، الطواعين في صدر الأسلام والخلافة الأموية، مجلة جامعة كركوك (مج 6، ع2) ص 115، 2011 م. [10] البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، ابن عذاري، ص 225 [11] جمال الدين بن تغري بردي، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، سنة 748 هـ [12] رشيد يماني، مجلة ليكسوس، عدد 22، 2018 (مواقف أطباء مملكة غرناطة من وباء منتصف القرن الثامن الهجري) [13] تاريخ ابن خلدون [14] تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، محمد البزار، 1992 [15] https://www.skynewsarabia.com/technology/1325245-السعودية-تسجل-حالة-إصابة-بفيروس-كورونا [16]https://www.materials-talks.com/blog/2020/04/22/treatments-for-the-novel-coronavirus-covid-19/

Comments


  • Twitter
  • YouTube

©2022 by الموقع الشخصي: ناصر بن صالح الزايد

bottom of page