البدء في بناء أكبر مفاعل اندماجي تجريبي في العالم
- ناصر الزايد
- 4 نوفمبر 2022
- 5 دقيقة قراءة
البدء في بناء أكبر مفاعل اندماجي تجريبي في العالم
أ.د. ناصر بن صالح الزايد
22/8/2020
تعتمد كثير من دول العالم المتقدمة اليوم على محطات الطاقة النووية، فما هي تلك المحطات أو المفاعلات؟ وما الفرق بينها وبين المفاعل التجريبي الجديد الذي بدأت تتعاون على بنائه 35 دولة ويوجد في الجنوب الفرنسي؟
رأيت البدء في توضيح سريع للمفاعلات النووية (التقليدية!) حتى تتضح بضدها فكرة المفاعلات التي يجري البحث في إمكانية بنائها. تعتمد المفاعلات النووية الحالية على فكرة الانشطار النووي nuclear fission والتي تتم عندما يتم ضرب نواة ثقيلة مثل نواة اليورانيوم بواسطة نيوترون يؤدي إلى نواة مؤقتة غير مستقرة تتفكك سريعا إلى نوى أخف منها وتطلق نيوترونات إضافية، حيث تقوم هذه النيوترونات الناتجة بضرب أنوية أخرى مكررة العملية بشكل لا نهائي. عندما يستخدم كيلوغرام واحد من اليورانيوم في عمليات انشطار نووية ينتج عنه طاقة حرارية مقدارها: 72,000 تيرا جول أو 7.2x10¹³ جول. وللمقارنة فإن كيلو من الفحم عندما يحترق بالكامل ينتج 2.4x10⁷ جول من الطاقة الحرارية. إذن كيلو اليورانيوم يعادل 3,000,000 كيلو فحم وتكفي لغلي 171,000متر مكعب من الماء ابتداء من درجة الصفر، فهي إذن طاقة هائلة جدا، وتعول البشرية عليها كبديل حقيقي عن النفط. طبعا هذه الطاقة الحرارية يستفاد منها في تشغيل توربينات تستخدم في توليد الطاقة الكهربائية. هناك مشاكل تعتور هذه المفاعلات وهي خطورتها لو خرجت عن السيطرة أو حصل لها عطب أو ربما تعرضت لهجوم من قبل عدو، حيث تؤدي إلى تلوث إشعاعي خطير قد يؤدي إلى دمار واسع النطاق وتستمر آثاره المدمرة لعدة سنوات بل لعدة عقود من الزمن.
من حيث فكرة العمل، لا يعد المفاعل النووي أمرا صعبا، فهو يتم تلقائيا بمجرد بداية التفاعل، ولكن الجانب الصعب والخطير هو موضوع التحكم والسيطرة، حيث إن الانشطار النووي يطلق نيوترونات تكرر التفاعل مرة أخرى ولكن بعدد أكبر وهكذا إلى ان نصل إلى الانفجار النووي في غضون ثوان معدود، ما لم يتم التحكم والسيطرة بحيث يتم امتصاص النيوترونات الزائدة مع إمكانية إيقاف التفاعل في أي لحظة.
الشكل التالي يوضح عملية الانشطار النووي:

الاندماج النووي بالمقابل هو عكس العملية السابقة تماما حيث يقوم المفاعل النووي الاندماجي بدمج نواتين صغيرتين لكي تنتج نواة كبيرة هي مجموع النواتين + طاقة حرارية وهذا بالضبط هو ما يحصل في الشمس وما يحصل في النجوم أيضا، وهو ينتج طاقة نظيفة تماما بعيدا عن خطر الإشعاع المشار إليه أعلاه. في الشمس تندمج ذرات الهيدروجين (أو نظائره) مع بعضها مشكلة ذرات الهيليوم ومطلقة الطاقة الهائلة التي تشع لعشرات الملايين من الكيلومترات حول الشمس.
ماهي الصعوبة في التفاعل الاندماجي؟ إن إرسال نيوترون باتجاه كتلة من اليورانيوم لبدء التفاعل النووي الانشطاري هو أمر سهل جدا، فالنيترونات يمكن الحصول عليها من مصادر مختلفة بكل سهولة، وبمجرد بداية الانشطار تقوم النيوترونات الناتجة بالدور تلقائيا، ولذلك فالتفاعل النووي الانشطاري، لا يحتاج إلى طاقة، بل هو يعطي الطاقة كاملة. بالمقابل، فالتفاعل النووي الاندماجي nuclear fusion مختلف تماما. تستطيع أن تضع ذرة ما (ذرة تريتيوم مثلا) بالقرب من ذرة أخرى (ديتيريوم مثلا) ولكن هذا لا يفيد شيئا. حتى نستفيد نحتاج أن نجعل الذرة الأولى والثانية تندمجان مع بعضهما لتصبحا ذرة أخرى أكبر منهما. ولكن عملية الدمج تحتاج لطاقة هائلة حتى تحصل بسبب التنافر القوي بين الذرتين كلما اقتربتا من بعض.
هناك محاولات سابقة للعلماء للحصول على تفاعل نووي اندماجي بلغت حوالي 100محاولة منذ عام 1950، فشل معظمها وأعطى نتائج مخيبة، ولكن بعضها الآخر بدا واعدا بعض الشيء. مؤشر النجاح هو المعامل Q وهو يبدأ من الصفر ولا حد لقيمته العليا ولكن المستهدف هو أكبر من

10. حيث إن التفاعل الاندماجي يحتاج لطاقة حرارية لبدء التفاعل واستمراريته أيضا، كما أنه ينتج طاقة هي المقصودة من ورائه، لو قسمنا قيمة الطاقة الناتجة على قيمة الطاقة التي تقدم للمفاعل فنحصل على قيمة Q. منذ زمن طويل يبحث العلماء عن حد التعادل أي Q =1 ومعناها أنك تقدم مليون واط من الطاقة وتحصل على مليون واط من التفاعل. غير ان هذا الحد لم يكن سهلا. أعلى رقم تم الوصول إليه هو من مشروع (الحلقة الأوروبية المشتركة) Joint European Torus وسمي كذلك لأنه بشكل حلقة ويختصر اسمه JET ونسميه جيت، ومكانه بريطانيا.
بدأ جيت بناؤه في العام 1983 وكانت أولى تجاربه في العام 1991، وتعرض للتطوير أكثر من مرة حتى وصلت ذروة أدائه في العام 1997 حيث وصل المعامل Q إلى 0.67 لأنهم قدموا له طاقة مقدارها 24 مليون واط وكان عطاؤه فقط 16 مليون واط، أي أنه غير مجد اقتصاديا. حتى ينجح هذا المفاعل، يلزم أن يعطي طاقة أعلى من الطاقة المدخلة حتى تعود تلك الطاقة وتحدث تفاعلا اندماجيا مرة أخرى وهكذا بدون توقف. وقد تم إغلاق هذا المشروع في العام 2011، مصحوبا بالكثير من الإحباط الذي أصاب العلماء الذين ضيعوا عدة عقود من المحاولات.
إن كان البشر، وخاصة العلماء، لا يفقدون الأمل، ويعشقون التحدي ومواجهة الصعوبات، فإن هذا يظهر جليا في بزوغ نجم مشروع جديد على انقاض المشروع السابق تشارك فيه 35 دولة من الدول المهتمة، وحشد ضخم من العلماء والمهندسين لاستخدام التوكوماك tokamak (كلمة روسية تعني الجهاز الذي يعتمد على المجال المغناطيسي الهائل لاحتواء البلازما الحارة جدا ضمن فراغ بصورة حلقة). أطلق على هذا التوكوماك اسم: المفاعل الحراري-النووي الدولي التجريبي International Thermonuclear Experimental Reactor ويختصر اسمه (ايتر). وهو أكبر توكوماك دولي حتى تاريخه وقد بدأ بناؤه هذه الأيام في الجنوب الفرنسي. بحسب الخطة فسوف يتم دفع 500 ميجاواط من الطاقة الحرارية منها 50 ميجاواط يتم إدخالها في التوكوماك، ويؤمل ان تؤدي إلى تفاعل اندماجي نووي داخله ينتج عنه 500 ميجاواط من الطاقة الحرارية النظيفة التي سوف تطرد للخارج لأنه لم يصمم بعد لأنتاج الكهرباء. التمويل لهذا المشروع العملاق يتم من سبع جهات رئيسية: الاتحاد الأوروبي، الصين، الهند، اليابان، روسيا، كوريا الجنوبية، والولايات المتحدة، حيث يتوقع أن تتجاوز تكلفته 22 مليار يورو.

نظريا، لو نجحت عملية إنشاء مفاعل اندماجي مستمر ذي طاقة أعلى مما يحتاج، فإن 1 كيلوجرام فقط من الهيدروجين أو نظائره تعادل من حيث الطاقة إلى أكثر من 11 ألف برميل من النفط، علما بأن نظائر الهيدروجين متوفرة بشكل كبير في مياه المحيطات.
هناك ثلاثة شروط أساسية يتوجب توفرها حتى ينجح التفاعل الاندماجي. أولا: يتوجب توفير درجة حرارة عالية بين 150 و 200 مليون درجة مئوية، ثانيا: يلزم توفر كمية كافية من البلازما (ذرات نظائر الهيدروجين بعد نزع إلكتروناتها بسبب الحرارة العالية) حتى ترتفع احتمالية الاندماج، وأخيرا: إمكانية الاحتفاظ بهذه البلازما لوقت طويل لنفس الغرض. وكل هذه تحديات على أعلى مستوى يمكن تصوره. على سبيل المثال: درجة الحرارة المذكورة كافية لإذابة أي وعاء من أي مادة كانت فكيف يمكن توفير بلازما بهذه الدرجة الحرارية العالية دون أن تذوب جدران الوعاء الحاوي لها؟ ومن هنا جاءت أهمية التوكوماك، وهو عبارة عن حلقة تشبه لستك السيارة محاطة بالمغناطيسات القوية، ومفرغة بالكامل، ويتم الاحتفاظ بالبلازما في قلبها بعيدا عن الحيطان بواسطة المجال المغناطيسي. كون التوكوماك مفرغا بشكل كامل من الهواء فإن الحرارة لا تصل للجدران نفسها.
هناك محاولات أخرى قادمة تدفع باتجاه الاندماج النووي كحل للطاقة، تدعمه قوى كثيرة في العالم بما فيها بعض مؤسسات القطاع الخاص، على سبيل المثال شركة لوكهيد مارتن الشهيرة، وشركة أمازون، ومايكروسوفت، وغيرهم الكثير لهم نوايا في الدخول في هذا المجال.

إن الفكرة الأساسية للتفاعل النووي سواء كان انشطاريا أو اندماجيا، تعتمد على معادلة شهيرة وضعها أينشتاين وهي التي تنص على E = mc² ، حيث تمثل m الكتلة، والثابت c سرعة الضوء، وطبعا E هي الطاقة. وحتى نفهمها بشكل مبسط، كتلة نواة اليورانيوم أكبر من مجموع كتل الأنوية الناتجة من التفاعل، والسؤال: أين يذهب الفرق؟ إن الفرق يتحول إلى طاقة بحسب المعادلة المذكورة. تثبت هذه النتيجة صحة توقع أينشتاين في أن الكتلة والطاقة وجهان لعملة واحدة.




تعليقات